هذا مقالٌ كنتُ كتبْتُه قَبْلَ أربَعِ سنوات تقريبًا، حينَ استقلَّتْ جائِحَةُ كُورونَا بتَدْمِير ما تبقَّى عند النَّاس من سَلَامةٍ نفسيَّةٍ وعقليَّة، ولعلَّ هذه الحالةَ العقليَّة التي كنتُ فِيها ساهمت فِي ردِّ فعلي الأوليّ (على تويتر، لا في المقالة) إذ رددتُ ردًّا -مع كونه مؤدَّبًا- لا يخلُو من تهجُّم. على أنَّنِي الآن، وإن كنتُ أنشُرُ هذه المقالةَ كما هِيَ، لم يعُد لأيٍّ من الشخصيَّات “التويتريَّة!” المذكورة فِيها عندي أيُّ قِيمة، نظرًا لحوادِثَ غير مهمَّة.
وكنتُ قَدْ حذفتُ هذه المقالة لأسبابٍ يطولُ ذكرُها، أهمُّها أنّي كنتُ حينها لا أرتَاح لإظهار هذا الجانب الأدبيّ منِّي، وقد اختَرْتُ أن أقصِرَ نشاطِي العامّ على الأمور الترفيهيَّة المعتادة، على أنَّنِي أقول صادِقًا إنه لا جديد يُقال، فإنّي لا أنشرُ هذه المقالة الآن طمعًا في أن يقرَأها أحد، بل لمجرَّد توثيق مقالٍ أرى أنه احتوى تحقيقًا جيِّدًا، وإن كنتُ بالغتُ في أسلوبي الاعتذاريّ نظرًا لمكانَةِ أحد الأشخاصِ عندي حينها.
وقد كنتُ فقدتُ هذه المقالة لأنني حين حذفتُها لم أقتصر على حذفِها من مدوَّنتي حينها، وقد عاتبني على ذلك بعضُ الأصدِقاء، فألهمني الله اليوم أن أبحثَ عنها في السحابيَّات فوجدتُها تامَّةً والحمدُ لله.
ولن أعدِّل أيَّ شيءٍ في المقالة، فإلى روح الشَّيخِ عبدِ القَاهر:
“فَدونَكَ مِن مَدحي أَزاهِرَ رَوضَةٍ= تُشَقُّ مِنَ الأَفكارِ عَنها كَمائِمُ
نَظَمتُ بِها دُرّاً وَباعي مُقَصِّرٌ= وَلَو أَنَّني فيكَ الدَرارِيَ ناظِمُ”
هذا للشيخ، وأمَّا لكَ فحسبُكَ المقال:
كان من سوالِفِ الأقضيَةِ أنْ مضَى عليَّ يومٌ كنتُ أتصفَّحُ فيه (تويتر) فوقعتُ على تغريدةٍ فيها اقتباس مِن كلامِ الإمام عبد القاهر الجرجانيّ، شيخِ البلاغيين على الإطلاق، في كتابه العظيم “دلائل الإعجاز” حول الوزنِ الشعريّ، ويعلمُ كُلُّ امرِئٍ ابتلاه الله بمصاحبتي، أو بملازمتي، أو بمتابعتي، أنَّ ما رَزَقَنِيهِ الله لهذا الرجلِ من الحُبِّ شيءٌ عَظيم، إذ يضطَرِبُ قلبي لرؤية اسمه وسماعه= وكان ذلك الاقتباس، بتأثيرٍ مِن السياق الثقافيّ المعاصر، محلًّا لاحتمال فهمٍ متوَهَّمٍ لبعض من يقرؤه يسوقه في مساق دعم بِدعة “الشعر الحر” الذي سماه أصحابه حُرًّا زورًا وبُهتانًا= ففَزِعتُ، ووَجِلتُ، واضطرب جنانِي حتى كأنِّي غُشِيَ عليَّ، فكأني به قد توقَّد نارًا تدفَّقَتْ أحرُفًا وعِباراتٍ دونما وعي مِنِّي! حتى إذا انتهيتُ، أفقتُ من غَشْيَتي، فنظرتُ، ورُوجِعتُ، فإذا سلسلةٌ تشتعل بالنَّار والحميم! وإذا ينتابُنِي ما ينتابُ الثَّمِلَ وقد أفاق! فحذفتُ ما كتبتُ مذهولًا! “ثُمَّ انصرَفْتُ، وظَلَّ الحِلمُ يعذلني= قد طالما قادَنِي جَهلِي وعَنَّانِي”.
أمَّا بعدُ، أيُّها القارئ الكريم، فلعلَّك – وحُقَّ لك – تتساءل: ما شأني بهذا؟ فأقول لك: إنني إنَّما قدَّمتُ لك بهذا حتى تتشوَّق لمعرفة كلامِ الشيخِ المنقول، ومآله ووجهه، مما سأورده بعد قليل، والشيء إذا “وطَّأتَ له، وقدَّمتَ الإعلام فيه، دَخَلَ على القلبِ دخولَ المأنوسِ بِه” كما قال الشيخُ، في “دلائل الإعجاز”، فهلمَّ.
قال الشَّيخ في “الدلائل“: “ليس هو في الفصاحة والبلاغة في شيء، إذا لو كان له مَدْخَلٌ فيهما، لكانَ يَجبُ في كل قصيدتين افتقتا في الوزن أن تنفقا في الفصاحة والبلاغةِ.” وقال: “فليسَ بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلامًا، ولا به كان كلامٌ خَيرًا من كلامٍ.”
وهذا كلام لو قرأتَهُ للوهلةِ الأولى، فقد تقع فيما كنت أخاف أن يَقَعَ فيه من يقرؤه، وأما إن تأنَّيتَ، وقلتَ: إنَّه مما لا ينبغي أن يرتابَ فيه العاقلُ أنه لِكلِّ زمانٍ سياقُه الثقافيّ، فلعلّ ما تبادر إلى ذهني خطأٌ، ولعلِّي محتاجٌ إلى النَّظَرِ في الكتابِ ومعرفةِ سياقِه، ثمّ معرفة سياق مجيء هذا الكلامِ فيه، فبهذا أعرف الحقَّ والصواب فيه= كنتَ قد فزتَ وجئت بما يقرُّك عليه العقل.
وأشرع في البيانِ فأقول: إنَّ الشيخَ ألَّف دلائلِ الإعجاز مُستفَزًّا من مَذهبٍ ذهبَ إليه القاضي عبد الجبار المعتزلي الشهير، في موسوعته “المغني في أبواب التوحيد والعدل” إذْ جعلَ القاضي عبد الجبار الإعجاز في “الضمِّ على طريقةٍ مخصوصة” وهو ما يكافئ “النظم” في كلامِ الشيخ، غير أن القاضي قال إن محلّ الإعجاز في اللفظ، وأنتَ إن دققتَ وجدتَ – حتى من قراءة كتاب دلائل الإعجازِ وحده – أنّ الخلاف بين الشيخ والقاضي أشبه بالخلاف اللفظيّ، إذ إن القاضي وإن قال إنَّ محلّ الإعجاز في اللفظ، فإنه لا يعني به اللفظَ من حيثُ كونه أصواتًا وحروفًا مضمومة، وهذا ليس مما نَوَدُّ أن نخوضَ فيه الآن، وقَد قرَّرَ الدكتور محمد أبو موسى نحوًا من هذا، في كلامٍ له لستُ أذكرُ محلَّ قراءتي له الآن.
أعود إلى الموضوع فأقول: إن الشيخَ كان – في سياق تقريره فكرةَ كون الإعجاز في النَّظْمِ وردِّه على المذاهب الأخرى – يستعرِضُ الأقوال المختلفة، ويُجيبُ عنها، ثُمَّ يعقِّبُ ببيانِ الإشكالات التي قد تَرِدُ فيجيبُ عنها أيضًا، كعادة العلماء. فيستعرِضُ الشَّيخُ قضيَّتَي “الاحتذاء” و”النَّسَق”، والاحتذاء باختصارٍ هو: الاتِّباع والنسج على مِنوال الشيء، أما النَّسَق فهو الترتيب والنِّظام، وسيأتي بيان ذلك، يقول الشيخ: “ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس، كان قد أَتى بِمثْلهِ على سبيلِ الاحْتِذاء: أخبرْنا عنكَ؟ لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس؟ ألأنه نطقَ بأنفُسِ الألفاظِ التي نطقَ بها، أَمْ لأَنه راعى النَسَق الذي راعاه في النطقِ بها؟”
والشَّيخ يقول لِمَن يزعُم أن المُنشِد (أي: من يُنشِدُ قولَ الشاعر؛ يرويه، أو يحتج به، أو نحو ذلك) قد أتى بمثلِ ما أتى به الشَّاعر، وإنَّما الفرق: أن الشاعر قد أتى به على نحو الابتكار والابتداع، أما المُنشِدُ فقد أتى به على نحو الاحتذاء= “لماذا زعمتَ أن المنشد قد أتى بمثلِ ما قاله امرؤ القيس؟” يعني في شعره، ويُناقِشُ الشَّيخ بعدَ هذا البيتَ الأوَّل من المعلَّقةِ تحديدًا، وسنعود إليه. ويقول الشيخ قبل النقل الآنفِ أيضًا: “وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ مُحْتذِياً إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخذًا ومسترقًا” أي: أنَّهُم لا يقولون عن القائل إنه مُحتَذٍ إلا من الباب الذي يقولون عنه إنه آخِذٌ وسارِق، ومعنى هذا أنهم إنما يطلقون عليه هذا القول في الشِّعر الذي يقوله ويكون له، ثمّ يكون آخِذًا له من آخر، أو سارقًا له، أو محتذيًا له ناسجًا على منواله، ثمّ يقول: “فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُه وقراءتُه احتذاءً فَما لا يعْلَمونَه. كيف؟ وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كل لفظة لفظًا في معناه… لم يجعلوا ذلك احتذاء ولم يؤهلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه مُحْتذِياً، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيع سلخًا، ويرذلونه ويسحقون المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة امرئ القيس: إنه احتذاه…”
فالشَّيخُ – كما تَرَى – يردُّ على قولِ من يُسمِّي المُنشِدَ محتذِيًا، ويُناقِشُ هذا القولَ على طريقة الإيراد والردّ، بعد النَّقلِ الأوَّلِ وسؤاله للقائل بهذا القول: أيسمِّي المُنشِدَ محتذيًا من أجلِ أنه نطقَ بأنفُسِ الألفاظِ التي نطقَ بها الشَّاعر، أم لأنه أنشأ كلامًا فراعى فيهِ نفسَ النَّسَقِ الذي راعاه امرؤ القيس؟ فيقول الشيخ: “فإِنْ قلتَ:”إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها”، أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أنْ يقالَ في الثاين إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ، إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محال، إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال: إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِل= بسقطِ اللوى بين الدخولِ فحومَلِ= قبلَ امرئ القيسِ أحدٌ”
والشَّيخُ هنا يَردّ الإجابة الأولى فيقول: هل من أجلِ أنَّ المحتذي نطَقَ بنفسِ الألفاظِ التي نطقَ بها امرؤ القيس جعلته محتذيًا؟ فإن كان كذلك فقد أحلتَ (أي: جئت بالمستحيل الفاسد الممتنع) إذ إن امرأ القيس ليس أوَّل من نطَقَ بهذه الألفاظِ التي هي “قفا” و”ذكرى” و”حبيب” وغيرها مما وردَ في المطلع، وغيره من الأبيات، ولا ريبَ أنَّ من قبله قد نطقَ بهذه الألفاظ كما نطقَ هو بها، فهو لم يسبِقْ غيرَهُ إلى النطق بها.
ثم يواصل الشيخ المناقشة فيقول: “وإن قلتَ: إنَّ ذلك [أي: تسمية المنشد محتذيًا] لأنَّه قد راعى في نُطقِه بهذه الألفاظ النسق الذي راعاه امرؤ القيس. قيل: إنْ كنتَ لهذا قضَيْتَ في المُنْشِد أنه قد أَتَى بِمْثل شِعْره، فأخْبِرْنا عنكَ؟ إِذا قلت: “إن التحدِّيَ وقَع في القرآن إلى أن يُؤتى بمثله على جهةِ الابتداء، ما تَعْني به؟ أَتَعْني أَنه يأتي في ألفاظٍ غيرِ أَلفاظ القرآن، بمثل التّرتيبِ والنَّسَقِ الذي تَراه في ألفاظ القرآن.”
وهنا نصِلُ إلى مربط الفرَس، وما يُبيِّن لكَ اتصال هذه المسألة بإعجاز القرآن، وسأبيِّنُ لكَ الفقرةَ بصورةٍ أرجو أن لا يبقى في ذهنكَ أيُّ إشكالٍ بعدها، أقول: إنَّ القائل بأنَّ (والباء هنا لأن القول بمعنى الاعتقاد، وإلا لم تَجُز. تقول: قال إن، فإذا أردت بـ”قال” “اعتقدَ” قلتَ: قال بأنَّ، فاعتَبِر) المُنشِدَ محتذٍ، يقول: إنَّنا إذا قرأنا القرآن كُنَّا قد احتذينا قولَ الله عزَّ وجلَّ، ومِن ثَمَّ يكون التحدِّي الذي وقَعَ: أن يؤتى بمثل القرآن في النَّظمِ على سبيل الابتداء والابتكار لا على سبيل الاحتذاء، فإن ذلك متيسِّرٌ لكلِّ أحدٍ ما دمنا سَمَّينا المُنشِدَ محتذيًا إذ يترتَّبُ على ذلك تسميةِ تالي القرآنِ محتَذِيًا أيضًا= فالشَّيخُ يسأل القائل بهذا القول: إن كنتَ تقول إنك سمَّيتَ المنشد محتذيًا لأنه راعى في نطقه النَّسقَ (أي: الترتيب والنظام) الذي راعاه امرؤ القيس قبله= وجعلتَه – بناءً على ذلك – آتيًا بمثلِ ما أتى به امرؤ القيس إلا أنّ الفرق في الابتداء والاحتذاءِ= فأخبرنا: حين تقول إنَّ الله تحدَّى المُشرِكين أن يأتوا بمثل القرآنِ في نظمه على سبيل الابتداء لا الاحتذاء، ماذا تعني بذلك تَحديدًا؟ أتعني أن يأتي بمثلِ الترتيبِ والنسق الذي نراه في القرآن، بألفاظٍ غيرِ ألفاظ القرآن؟
ويستمرّ الشَّيخُ: “فإن قال: ذلك أعني.” أيْ: إن أجابَ على سؤالنا، بأن ما أعنيه هو ما قلتَه تحديدًا؛ مِن الإتيانِ بمثلِ ترتيب القرآن ونسقه ونظمه، أي بمستوى نظم القرآن= بألفاظٍ غير ألفاظِ القرآن. “قيل له: أَعلِمْتَ أَنه لا يكونُ الإتيانُ بالأشياءِ بَعْضِها في أَثرِ بعضٍ على التَّوالي نَسَقاً وتَرتيباً، حتى تكونَ الأشياءُ مختلفةً في أَنْفُسها، ثم يكونَ للَّذي يَجيءُ بها مَضموماً بعضُها إلى بعضٍ، غرضٌ فيها ومقصودٌ، لا يَتمُّ ذلك الغرَضُ وذاك المقصود إلا بأَنْ يتَخيَّر لَها مواضِعَ، فيَجعلَ هذا أولاً، وذاك ثانيًا؟ فإِنَّ هذا ما لا شُبهة فيه على عاقل. وإِذا كان الأمرُ كذلك، لزِمَك أن تُبَيِّنَ الغرضَ الذي اقتضَى أنْ تكونَ ألفاظُ القرآنِ منْسوقةً النَّسَقَ الذي تَراه.”
ومعنى هذا: أنَّ قولنا إنَّ هذه الأشياء قد جيءَ بها مرتَّبةً ومنسَّقةً، يعني أنَّ هذه الأشياء مختلفةٌ عن بعضِها (مثالُ ذلك: أن الألفاظ تختلفُ عن بعضها) قد رُوعِيَ فيها ترتيبٌ ونسقٌ محددان، وذلك لا يتمّ إلا أن يكون هناك غَرَضٌ في هذا الضَمّ، بناءً عليه يُتخيَّرُ للأشياءِ مواضعها، فيُجعلُ هذا أولًا، وذاك ثانيًا، وهلمّ جرّا، فإن كان الأمرُ كذلك فقد ثبَتَ وجودُ غَرَضٍ في ترتِيبِ هذه الألفاظ هذا الترتيب في القرآن: وهذا الغَرَضُ هو النَّظم الذي يتوخى معانيَ النَّحو في ترتيبِ الكلام وتعليقه ببعضِه (وهي نظرية الشيخ التي دار عليها كتابُ دلائل الإعجاز) فينتهي الشيخُ من هذا إلى إثبات نظريته؛ نظريَّة النَّظم، التي تجعل مدار بلاغة الكلام، التي تترقى حتى يصلَ الأمرُ إلى الإعجاز= في النَّظمِ الذي يدور حول تعليق الكلام ببعضه وفق معاني النَّحو، أي: وفق ما يترتَّبُ من المعاني على استخدام هذا التركيب المحدد، ومِن ثم كانت نظرية عبد القاهر تدور حول المعاني، وتختفي فيها ثنائيَّة “اللفظ والمعنى” إذ المعنى أصلًا مُتشكِّلٌ من النَّظم وتعليق الكلام ببعضِه، فكلُّ تغيير ذي بالٍ في اللفظ (أي: لا يكون بتغيير مجرد اللفظ بمرادف)= لا محالةَ يُغيِّر المعنى، فكل الأمور راجعةٌ إلى المعنى حتى اللفظ، ولا يتشكل المعنى النَّظمِيّ إلّا بتعليق الكلام ببعضه في سياق محدد. وسأضرِبُ لك – على عجالةٍ، إذ ليس مُرادي هنا شرحَ نظرية النظم، بل بيان مقالة الشيخ في الوزن الشعريّ – مثالًا، لديكَ معنًى خام: زيدٌ شجاع. هل المعنى نفسه حين تقول: زيد كالأسد؟ لا، صحيحٌ أن المعنى العام (الخام) موجود في الاثنتين، لكنّ الثانية زادت معنًى (لا لفظًا فحسب، فتنبَّه!) وهو معنى أبلغ (أي: أكثر إفادةً لشجاعة زيد، لا أنه أحسن في كل السياقات، فتنبَّه!) إذ فيه مساواة زيد بالأسد في جهة= ثمَّ لو قلتَ: “زيدٌ أسَد” هل المعنى نفسه؟ لا، فقد تغيَّر عما سبق، إذ هذا التشبيه (ويُسمّى في علم البيان: التشبيه البليغ) فيه ادعاء كونِ زيدٍ أسدًا مجازًا، أي كأنَّ زيدًا داخلٌ في جنس الأسد، فهو أبلغ من سابقيه (على ما سبق بيانه في معنى: أبلغ، فتنبَّه!) وهكذا السبيل في كلِّ العبارات مما سبيلها هذه السبيل (باستثناء ما استثنيته لكَ للتوّ) فإن معانيها النَّظمِيَّة تختلف وإن بقيت معانيها العامة الخامَّة، وهذا، وغيره من التقريرات المفصَّلة التي يقرّرها الشيخ والتي لا يكفيها مقام الاختصارِ هذا= يُزيح الإشكال كاملًا في شأنِ ثنائيَّة “اللفظ والمعنى” أو “الشَّكل والمضمون” وبه تفهم كلام القدماء، حتى المتقدِّمين على عبد القاهر كالجاحظ وابن قتيبة، في تفصيلٍ بعيد الغَوْرِ لا تكفيه هذه المقالة! ولكن يكفي أن أقول لك أن هذه السبيل هي التي خاض غمارها الشيخ في تفسيرِ قول الجاحظ: “والمعاني مطروحةٌ في الطريقِ يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والقرويُّ والبدويُّ، وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزنِ وتَخيّر اللفظِ” أي المعاني العامة مطروحة في الطريق، وإنما الشَّأنُ في حصول المعنى الخاص النظميّ الذي يزيد على هذا المعنى الخامّ العامّ “المطروح في الطريق”، واعلم أنَّ هذا الذي قلتُه لك لا يتَّضح في ذهنك تمامًا إلا إن قرأتَ الكتابَ كلَّه، وضممتَ أقوال الشَّيخِ إلى بعضِها، وهذا موضعٌ زلَّت به أقدامُ بعضِ الأساتذة فلم يعرفوا كيف يشرحوا النظريَّةَ جيِّدًا. واعلم أيضًا أنَّ الشيخَ حين أورد هذا النَّقلَ عن الجاحظ، كان يردُّ على من فضَّل المعاني على الألفاظ، أي: من فضَّل المعاني العامة المطروحة في الطريق، على الألفاظ ويعني بها: على الألفاظ من حيثُ كونُها تحقِّقُ المعنى النَّظميَّ الخاصّ، فتنبَّه لهذا جيِّدًا، واعتبر به، ولا تُسارع إلى القول جُزافًا فترمي بنفسك فيما يُزري بالعاقل!
ونعودُ إلى ما نحن فيه، يقول الشيخ بعد ذلك: “ولا مَخْلَصَ له من هذه المُطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتصى والموجِبُ للَّذي تَراه من النَّسق= المعانيَ وجَعلَه قد وجب لأمر يرجع إلى اللفظ، لم تجد شيئًا يحيل في وجوبه عليه البتةَ” يعني: لا مخلَصَ له من الإلزامِ الذي ذكرناه، فإنه يقتضي صراحةً أن يكون المرجع في الأمر في النسق إلى المعاني لا الألفاظ (على النحو الذي بينته لك قبل أسطر) أما إن جعله راجعًا إلى الألفاظِ (وهي أصواتٌ وحروف لا غير إن لم تعتبر فيها المعاني) فلن يجد ما يفسّر به وجوب ترتيبٍ ونسق محددَين البتة.
ثم يقول – وأرجوكَ يا عزيزي القارئ أن تلتفتَ جيِّدًا إذ وصلنا لمحلِّ الشاهدِ الذي سقنا الكلامَ كلَّه من أجلِه! – : “اللهُمَّ إلاَّ أَنَّ يَجْعل الإعجازَ في الوزن، ويَزْعُمَ أنَّ النَسقَ الذي تراه في ألفاظ القرآنِ إنما كان معْجِزاً، من أجْل أنْ كان قد حَدث عنه ضربٌ من الوزن يُعجِز الخلقَ عن أنْ يأْتوا بمثله.”
فيُورِدُ الشَّيخُ هنا قولًا قد يرجع إليه قائل هذه المقالة، وهي أن يقول: إنه يسوغ أن نرجع الأمر إلى اللفظ، إذ إنه بترتيب اللفظِ يتحقَّقُ وزنٌ محدد وهذا الوزن هو المعجز، وإنما كان النَّسق مُعجِزًا، لأنه يُحدِثُ هذا الوزنَ، والخلق يعجزون أن يأتوا بمثلِ هذا الوزن. لاحظ – عزيزي القارئ – أن الشَّيخَ يفترضُ هذا افتراضًا، لكي لا يُبقِيَ حجة قد يستدلُّ بها المحتجّ إلا أجابَ عنها، ومن البيّن الواضح أن الوزنَ لا دخل له في النسق الذي يكون مبنيًّا على النظم وتوخيه في ترتيب الكلام، لا على الوزن، سواءٌ في الشِّعر أو في المعجزة الخالدة: القرآن الكريم، وليس الوَزنُ معيارًا في نَفسِ بلاغة الكلام، إذ ذلك المعيارُ إنما هو النَّظم، أما أن يكون الوزنُ معيارًا تُختبرُ به قوة الشاعر، فهذا لا ريبَ فيه وقد مرَّ كلامُ الجاحظ قبل قليل، وليس هو ما يتكلَّمُ الشيخُ عنه في هذا السياقِ أصلًا. هذا وإن كان الوزنُ، بما هو نغم، له دخل في إحداث معنى في النفس (وقد تطرَّقَ إلى هذا أبو فِهر محمود شاكر في كتابه العظيم “نمط صعب ونمط مخيف” في خلال شرحه للامية ابن أخت تأبَّطَ شرًّا، وتعرَّضَ له غيره أيضًا كالدكتور عبد الله الطيِّب في كتابه “المرشد إلى فهم أشعار العرب” ولم أقرأه بعدُ، فراجِع فإن هذا ليس مقامَ الكلام عن ذلك) ومنه البديع المعنويّ، وتقريرهم أن البديع بأقسامه لا بد أن يكون خاضعًا للمعنى من هذا الباب فيما أرى. وهذا لا ينفي أنَّ الشاعر حين يرتِّبُ الكلامَ وفق نظمٍ محدَّد، فإن البحور الشعرية تمثِّل تحدّيًا أكبر من إرسال الكلام عاديًّا (والكلام الآن فيما عدا القرآن إذ هو معجِزٌ للكلّ؛ للشعراء وغيرهم) ومنعدمُ الملكة الشعرية لا يقوى على نظمٍ رفيع في الشعر، لوجود هذا التحدّي الوزنيّ. هذا على أن للشعر العربيّ خصوصية معنوية (نسبة للمعنى في مقابل اللفظ لا المعنى في مقابل المادة) تحصل بالبحور الشعرية، إذ ترتِّبُ هذه البحور شعورَ الشاعر، فلمَّا انفلتَ بعض أدعياء الشعر، الذين دعوا لما يُسمى “الشعر الحر” في زماننا هذا من هذا الزمام، جاءَ ولا بلاغةَ فيه، وبَانَ ضعف النظم والركاكة فيه، إلا من رحم ربي منهم. ولسنا نُنكر أنْ قد يكون شيءٌ من هذا جيّدَ النظم مُستملَحَ المعنى، إلا أنه على كلّ حال ليس شِعرًا.
ثمّ يجيء النَّقلُ الأوَّل، أوَّلُ نقلٍ نقلناه لنفسِّره في هذه المقالة: “وإذا قال ذلك، لم يُمْكِنْه أنْ يقولَ: ”إنَّ التحدِّيَ، وقَع إلى أن يأْتوا بمثلِهِ في فصاحَتِه وبلاغَتِه”، لأن الوزن ليس هو في الفصاحة والبلاغة في شيء، إذا لو كان له مَدْخَلٌ فيهما، لكانَ يَجبُ في كل قصيدتين افتقتا في الوزن أن تنفقا في الفصاحة والبلاغةِ. فإن دعا بعضُ الناس طوال الإِلْفِ لِمَا سَمعَ من أَنَّ الإعجازَ في اللفظ إلى أَنْ يَجْعلَه في مجرَّدِ الوزْنِ، كان قد دَخَل في أمرٍ شنيعٍ، وهو أنَه يكونُ قد جَعلَ القرآنَ مُعجِزاً، لا مِن حيثُ هو كلامٌ، ولا بما به كان لِكَلامٍ فضْلٌ على كلامٍ فليسَ بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلاماً، ولا به كان كلامٌ خَيراً من كلام”
وليتَ شِعري، إن كنتُ لستُ عييًّا، فهل يبقى في ذهن اللبيبِ أيُّ شُبهةٍ في مقصد الشيخ من هذا الكلام؟! ورحمَ الله الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجانيّ.
– تم الكلام والحمد لله ربِّ العالمين –