ما خِلْتُ أنِّي أفتَح الحاسوبَ في مثل هذا الوقتِ المُتأخِّرِ لأكْتُبَ مقالةً، فضلًا عن أن تكون مقالةً أدبيَّة، فإنني قد خلتُ أنَّ مشاغِلَ الحياةِ حمَلَتْنِي على نَبْذِ مثلِ هذا ورائِي ظهريًّا، وقَد كان من سوالِفِ الأقْضِيَةِ أيضًا أني خلتُ أنِّي نبذت القِرَاءةَ أصْلًا وراء ظهري، غيرَ أن الصُّحبة الصَّالِحَة، ومحبَّةَ الإخوان، تَفْعَلُ بالمرء ما هو أكثر من ذلك وأشدُّ، وها أنا ذا أكْتُبُ قُبِيْلَ الفجر، والدواوين الَّتي حصلتُ عليها بصعوبةٍ شديدة لا أجِدُ لها مكانًا في مكتبتي، بل لنقُل إنّي على عادتي وعلى العهد الذي كنتُ عليه أكرَه إجهاد نفسي في أيِّ شيءٍ كان، وأستوحِشُ من الاجتهاد إلا فيما تضطرُّني نفسي إليه اضطِرارًا.
مُنذ سنوات بعيدة وأنا أشعر بحالة العُلقة بأشباحِ الأموات، وكأني أحادثهم ويُحادِثونني، عُلقة تتخطّى مجرَّد معرفتهم والشعور بهم إلى تكوين صداقَةٍ حقيقيَّة وودٍّ حقيقيٍّ (ومتَبَادَل) بيني وبينهم، لكن رُويْدك فإني لم أعنِ ما قد يقفزُ إليه ذهنك، بل أعني أصحابَ الكُتُبِ الذين “رَحَلُوا.. فأيَّةُ عبرةٍ لَم تُسْكَبِ” (البُحتريّ) لكنّهم تركوا وراءهم هذه السطورَ الكثيرة، فكأنَّك حين تقفُ أمامَها “وَلَقيت كُلَّ الفاضِلينَ كَأَنَّما= رَدَّ الإِلَهُ نُفوسَهُم وَالأَعصُرا” (المُتنبِّي)، وأمثالُ هؤلاء – أعني الذين أشعر بالعُلْقَةِ معهم، وأشعر أنهم يعرفونني وأعرفهم – قِلَّة، ولكنَّ منهم أبا تمَّام، فماذا أريدُ أن أكتُبَ عنه اليوم؟ وبالأحرى: ماذا أريدُ أن أكتبَ عن نفسي اليوم؟ بصراحة، لا أعلم.
قد بلغتُ من العمر الحدَّ الذي نَزَعني من الأحلام إلى الواقع، وما زالت ذكرياتٌ محدَّدةٌ لها وقع الصَّدى في ذهني، وكلَّما ألممتُ بها قُلتُ سلامُ! و”كَم حلَّ عُقْدَهَ صَبْرِه الإلمامُ!” (أبو تمَّام)، وعلى أيِّ حال فإنني كنت طوال سنين طلبي، وبعدها، أُحبُّ هذا الشَّاعِر، وقد شعرتُ بتأثُّرٍ شديد حين قَرَأتُ له قَوْلَهُ:
“ستٌّ وعشرون تدعوني فأتْبَعُها= إلى المَشِيبِ، ولَمْ تَظْلِم ولَم تَحُبِ
فأصغِرِي أنَّ شيبًا لاحَ بِي حَدَثًا= وأكْبِرِي أنَّنِي في المَهْدِ لَمْ أشِبِ”
(يعني: مضت من حياتي ستَّةٌ وعشرون، وهي تدْعوني إلى المِشِيب على قِلَّتِها فأتبَعها؛ إذ لم تَظْلِمني ولَم تُذْنِب فِي حقِّي بذلك، فيَا صَاحِبَتي ما أصغر أن يعلُوَنِي الشَّيبُ وأنا شابٌّ حَدَث، فالعَجَبُ أنّي لم أَشِبْ حِينَ كُنت طِفلًا في المَهد!)= ثم اتَّفق لي أن أقرأ سيرةَ أبي تمَّام رحمه الله، فعرفتُ أنه كان كالنَّاعي نفسَه، إذْ ماتَ وهو ابنُ الأربَعِين أو يزيدُ قليلًا، وقد مضى فوق النصف من عمره حين تردَّدت أصداءُ صيحته هذه.
كنتُ قبل سنواتٍ طوالٍ وأنا أطلُبُ العِلمَ (وصرتُ لا أطلُبُه إلا لمامًا الآن، بل لا أطلبُه إلا عَرَضًا، وأقصدُ من القراءة شيئًا آخر) مرَّ عليّ بيتٌ من القصيدة التي عنونت بها المقالة، قالَ فيه حَبيبٌ (أبو تمَّام): “لَو حارَ مُرتادُ المَنِيَّةِ لَم يَجِدْ= إِلّا الفِراقَ عَلى النُفوسِ دَليلا” (أيْ لَو حارَتِ المَنيَّةُ مَن ترتَادُ لَاستدَلَّت على طريقها بمَن فارَقَ شخصًا، فهو أولى بالموت، وروايةُ “يجد” هي الأجود) فوَقَع من قلبي البيتُ موقِعَ السَّهم من الطَّرِيدة، وأخرجتُ الديوان من فوري وفتَّشت عن القصيدة وقرأتها إعجابًا بهذا البيت، وأُعجِبْتُ إعجابًا شديدًا بها.
كان هذا فيما سَلَف.. “ثُمَّ انقَضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلها= فكأنَّها وكأنَّهُم أحلامُ!”، ولا أدري لمَ ظلَّ يُعاودني طارِقُ هذه القصيدة ويُلحُّ عليّ أن أقرأها مُجدَّدًا على مرِّ السنين، وكنتُ أصرِفُه، حتى حَدَانِي حَادٍ أن أفْتَحَ وأفتِّشَ عنها، فلَمْ أصْرِف نصفَ العناء الذي كنتُ أراني سأصرِفُه في البحثِ عنها من جديد في ثنايا ديوان كبير لا إشارَةَ عندي فيه، ولا أتذكر فيها بيتًا واحدًا حتى! ولا أتذكَّرُ إلا الشُّعور.
وحينَها أحببت أن أطْرَحَ القصيدة هنا، ولا أعرفُ الغرض ولا السَّبب، فإن وقتًا طويلًا مرَّ منذ كتبتُ آخرَ مقالةٍ لي (آخر مقالتين هنا لم أكتبهما مؤخرًا بل هي مقالات قديمة استخرجتُها من أرشيف متهالك، وقد كنت أظنها ضاعت للأبد)، فدُونَكَها مع شَرْحٍ بسيط لما أرى أنه مُحتاجٌ إلى شَرْحٍ، وهي حريَّةٌ بالتَّأمُّل، وهي قصيدة في المدح بدأت بأرقَّ مِن قطر النَّدى، وأروَحَ مِن بلِّ الصَّدى.
1- يَومَ الفِراقِ لَقَد خُلِقتَ طَويلا= لَم تُبقِ لي جَلداً وَلا مَعقولا
(المعقول هنا بمعنى العقل)
2- لَو حارَ مُرتادُ المَنِيَّةِ لَم يَجِدْ= إِلّا الفِراقَ عَلى النُفوسِ دَليلا
3- قالوا الرَحيلُ فَما شَكَكتُ بِأَنَّها= نَفسي عَنِ الدُنيا تُريدُ رَحيلا!
4- الصَبرُ أَجمَلُ غَيرَ أَن تَلَدُّداً= في الحُبِّ أَحرى أَن يَكونَ جَميلا
(تَلَدَّدَ: الْتَفَتَ مُتحيِّرًا، أو تَلَبَّثَ.)
5- أَتَظُنُّني أَجِدُ السَبيلَ إِلى العَزا؟!= وَجَدَ الحِمامُ إِذاً إِلَيَّ سَبيلا!
(الحِمام: الموت.)
6- رَدُّ الجَموحِ الصَعبِ أَسهَلُ مَطلَباً= مِن رَدِّ دَمعٍ قَد أَصابَ مَسيلا
7- ذَكَرَتكُمُ الأَنواءُ ذِكرِيَ بَعضَكُم= فَبَكَت عَلَيكُم بُكرَةً وَأَصيلا
(الأنواء: النجوم، يعني أمْطَرَت السَّماء عليكم بكاءً عليكم.)
8- وَبِنَفسِيَ القَمَرُ الَّذي بِمُحَجَّرٍ= أَمسى مَصوناً لِلنَوى مَبذولا
(النَّوى: الفِراقُ.)
9- إنّي تَأَمَّلتُ النَوى فَوَجَدتُها= سَيفاً عَلَيَّ مَعَ الهَوى مَسلولا!
10- لا تَأخُذيني بِالزَمانِ؛ فَلَيسَ لي= تَبَعاً وَلَستُ عَلى الزَمانِ كَفيلا
11- مَن زاحَفَ الأَيّامَ ثُمَّ عَبا لَها= غَيرَ القَناعَةِ لَم يَزَل مَفلولا
12- مَن كانَ مَرعى عَزمِهِ وَهُمومِهِ= رَوضُ الأَماني لَم يَزَل مَهزولا
13- لَو جازَ سُلطانُ القُنوعِ وَحُكمُهُ= في الخَلقِ ما كانَ القَليلُ قَليلا
14- الرِزقُ لا تَكمَد عَلَيهِ فَإِنَّهُ= يَأتي وَلَم تَبعَث إِلَيهِ رَسولا
15- لِلَّهِ دَرُّكِ أَيُّ مَعبَرِ قَفرَةٍ= لا يوحِشُ اِبنَ البَيضَةِ الإِجفيلا
16- بِنتُ الفَضاءِ مَتى تَخِد بِكَ لا تَدَع= في الصَدرِ مِنكَ عَلى الفَلاةِ غَليلا
17- أَوَ ما تَراها ما تَراها هِزَّةً= تَشأى العُيونَ تَعَجرُفاً وَذَميلا
18- لَو كانَ كَلَّفَها عُبَيدٌ حاجَةً= يَوماً لَأُنسِيَ شَدقَماً وَجَديلا
(الأبيات الأخيرة في وصفِ النَّاقة، من شاءَ فليُراجع شرحها للخطيبِ في ديوان أبي تمَّام، تحقيق عزام، ج3، ص68 وما بعدها)
19- بِالسَكسَكِيِّ الماتِعِيِّ تَمَتَّعَت= هِمَمٌ ثَنَت طَرفَ الزَمانِ كَليلا
(يعني الممدوح)
20- لا تَدعُوَن نوحَ بنَ عَمرٍو دَعوَةً= لِلخَطبِ إِلّا أَن يَكونَ جَليلا
21- يَقِظٌ إِذا ما المُشكِلاتُ عَرَونَهُ= أَلفَينَهُ المُتَبَسِّمَ البُهلولا
22- ما زالَ يُبرِمُهُنَّ حَتّى إِنَّهُ= لَيُقالُ ما خَلَقَ الإِلَهُ سَحيلا
(السحيل: الحبل، وإبرام الشيء إحكامه وأصله من إحكام العُقدة في الحبل.)
23- ثَبتُ المَقامِ يَرى القَبيلَةَ واحِداً= وَيُرى فَيَحسَبُهُ القَبيلُ قَبيلا
24- كَم وَقعَةٍ لَكَ في المَكارِمِ فَخمَةٍ= غادَرتَ فيها ما مَلَكتَ فَتِيلا
25- أَوطَأتَ أَرضَ البُخلِ فيها غارَةً= تَرَكَت حُزونَ الحادِثاتِ سُهولا
26- فَرَأَيتَ أَكثَرَ ما حَبَوتَ مِنَ اللُهى= نَزراً وَأَصغَرَ ما شُكِرتَ جَزيلا
اللهى: العطايا، والنزر: القليل.
27- لَم يَتَّرِك في المَجدِ مَن جَعَلَ النَّدى= في مالِهِ لِلمُعتَفينَ وَكيلا
28- أَوَلَيسَ عَمرٌو بَثَّ في الناسِ النَّدى= حَتّى اِشتَهَينا أَن نُصيبَ بَخيلا؟!
(يعني أثَّر في النَّاس بكرَمِه فصاروا كُرماء مثله حتى صرنا نُريد رؤيةِ شخصٍ بخيل فلا نَجِدُه!)
29- اُشدُد يَدَيكَ بِحَبلِ نوحٍ مُعصِماً= تَلقاهُ حَبلاً بِالنَدى مَوصولا
30- ذاكَ الَّذي إِن كانَ خِلَّكَ لَم تَقُل= (يا لَيتَني لَم أَتَّخِذهُ خَليلا!)
ورائي ظهريا -> وراء ظهري
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)