كتبتُ هذه “المقالة” -إن صحّ تسميتُها بذلك- قبلَ ثلاثِ سنواتٍ تقريبًا، ولم أنشُرها، ولا أدرِي على وجه الدقَّة ما كنتُ ناويًا فيها، لعلّي وددتُ نشرها على هيئة “سلسلة”، أو نويت تعديلها قبل نشرِها مقالًا، وعلى أيِّ حال لا يُهمُّ أيٌّ من هذا.
وها أنا ذا أنشرها بين يديكَ، لا أمَلًا في أن تقرأها وتفهمها وتستمتعَ بها، بل لأنّها من بنات أفكاري التي أراها تستحقّ النَّظر، فدُونكَهَا مع ملاحظة أنّ هذه “المقالة” لا تمثِّلُ رأيي كلَّه في طه حسين الذي له ما له وعليه ما عليه، وما ذاك إلا لأنَّها ليست “مقالةً” أصلًا.
قال في حديث الأربعاء: “ومن هنا كان من الحق أن نلاحظ أن الحياة الأدبية ليست من السهولة واليسر والسذاجة بحيث نظن أو بحيث كان يعتقد الرواة، وإنما هي معقدة أشد التعقيد، غامضة أشد الغموض، محتاجة إلى ألوان من البحث والعناء فيه لنستخلص شيئًا من حقائقها المجهولة، فمن الخطأ الفاحش أن نظن أن أكثر هذا الشعر الذي يروى لنا عن شعراء العصر الأموي الإسلامي قد صدر عن الفطرة والسليقة صدورًا طبيعيًّا من غير تكلف ولا صنعة، كما يتفجر الينبوع عن الماء دون أن يكون للإنسان في تفجيره عمل، ليس هذا حقًّا، وإنما الكثرة المطلقة من هؤلاء الشعراء كانوا عمالًا صناعًا يجدون في فنونهم ويكدحون ويخضعون لما يخضع له غيرهم من العمال والصناع وأهل الفن من هذه القوانين الطبيعية والاجتماعية المختلفة.”
كَذا قال، ومرَّر إليك أنّ هذا كان اعتقاد الرواة، كانوا مجموعة من السذَّج الأغبياء، أصحاب معدّل ذكاء منخفض، لا يفقهون شيئًا، يعتقدون أن الشعر الإسلامي الأموي صدر عن الفطرة والسليقة صدورًا طبيعيًّا من غير تكلُّف، صحيح؟ طبعًا صحيح!
لكي أؤكد كلام طه حسين في غباء رواة الشعر، سامحهم الله، عدتُ إلى بعض المصادر اللطيفة، لأحضر الآتي: قال الجاحظ في البيان والتبيين: “كان مالك بن الأخطل التغلبي- وبه كان يكنى- أتى العراق وسمع شعر جرير والفرزدق، فلما قدم على أبيه [الأخطل] سأله عن شعرهما، فقال: وجدت جريرًا يَغرِفُ من بَحْرٍ، ووجدتُ الفرزدقَ ينحتُ من صخرٍ. فقال الأخطل: الذي يغرف من بحر أشعرهما.”
ولأنَّ طه حسين بخل علينا بهذه العبارة، أو لم يعرفها أصلًا!! فلنعد إلى من يشرحها إلينا، قال عبد القاهر في دلائل الإعجاز: “إذا قلت: “هذا ينحت من صخر، وذاك يعرف من بحر”، لم تكن شبهت قيل الشعر بالنحت والغرف، لكن تكون قد شبهت هذا [الناحت من صخر] في صعوبة قول الشعر عليه، وفي احتياجه إلى أن يكد نفسه بمن ينحت من الصخر وشبهت الآخر في سهولة قوله عليه، وفي أنه يناله عفوًا، بمن يعرف من بحر.”
والأخطل، بعدَ هذا، شاعرٌ معاصرٌ لجرير والفرزدق، وكان الشعراء جلُّهم رواةً في هذا العصر بل في غيره، وكان الفرزدق يفخر بكثرة ما يرويه من الشعر، فها هو ذا راوٍ يحلِّلُ صناعةَ شاعرٍ من خلال موافقته قولَ ابنِه فيه إنه يغرف من بحر! وهذا الجاحظ، راوٍ للشعر الإسلامي الأموي وغيره، يروي هذه القصة ويسكتُ عنها ولا يعترض.
وقل ما شئت، فالخطب يسير، ويكفي فيه أنهم منتبهون إلى هذا الغرض الذي يدَّعي طه حسين أنه غاب عن الرواة جميعًا، وعَقَلَه هو في زماننا الأغبر هذا!
وقال ابن سلّام في الطبقات: “وَأهل الْقرى ألطف نظرا من أهل البدو” وينقلُ عن النابغة: “وَقَالَ قدمت الْحجاز وفي شعري صَنْعَة ورحلت عَنْهَا وَأَنا أشعر النَّاس”
فابن سلّام ينقل هذا الكلام عن النابغة الذبياني، فلم يكن الأمر واضحًا للرواة فحسب، بل كانوا ينقلونه عن الشعراء ويحتجّون به في ثنايا نقدهم. ثمّ إن قول طه حسين “الكثرة المطلقة من هؤلاء الشعراء” باطلٌ لا وجه له ولا معنى، إذ لم يقدِّم هو إحصاءً ليثبتَ ذلك.
والمستقرّ المعروف أن الشعراء إما مطبوعون أو مُصنِّعون، على ما في هذه القسمة مما يُفهم معنًى غير سليم لم يُرده قائلوه منذ قِيل، وهذه القسمة ممتدّة إلى العصر الجاهلي، وكان الناس يعرفونها ويتداولونها كما رأيت.
هذه فقرة واحدة، فانظر كمّ المغالطات التي ستوجد في مقالة، ثم في كتاب، ثم في نظرية تامّة؟! والحمد لله.