أهلًا بكم.. يعلمُ الله -عزيزي القارئ- حجمَ ما التَمَسْتُه مِنَ الإرادة لأبدأ بكتابةِ هذا المقال، فإن الحديث في تطبيق الحبكة، على كونِه حديثًا تطبيقيًّا، لا يخلو من جانبٍ نظريّ ضروريٍّ جدًّا. وقد فرغنا من كلِّ المُمهِّدات لهذا الحديث سابِقًا، تحدَّثنا عن مفهوم الحبكة وأصوله، وعن أنواع الحبكة والتقنيّتين الأساسيتين فيها في المفهوم الأرسطيّ، كما تحدَّثنا عن تطوّر المصطلح. لذا سأحاول أن أتسلسلَ في الجانب النظريّ وأمزجه تدريجيًّا بالجانب التطبيقيّ المُعزَّز بالأمثلة، واللهَ أسألُ العونَ والتَّوفيق.
كَلِمَةٌ لا بُدَّ مِنها
ههنا تنبيهٌ مهمّ، تقرأ الآن -عزيزي القارئ- المقال السَّادِسَ في هذه السلسلة، لذا عليّ أن أنبِّهكَ إلى نتيجة حتميَّة لهذا الطَّرحِ كلِّه: المعاييرُ العامَّة التي تحدَّثتُ عنها في المقالةِ الأولى، لا بُدَّ أن تكون مستنِدةً إلى الفنّ نفسِه، ومستوحاةً منه، لا مأخوذة من أمور خارجة عنه، فلا يجوز محاكمة الأعمال إلى معايير لا تتناولُ الفنَّ نفسه، من حيثُ هو فنّ (وقد فصَّلنا هذا في المقال الثاني فلا نُعيد).
ولذا، فَحِين نحدِّد الحبكة معيارًا عامًّا للأنمي مثلًا، لا بُدّ من النَّظَرِ إلى كيفيّة تموضعها ضمن هذا الفنّ عمومًا أوَّلًا -إذ ليس الأنمي مسرحيةً ولا روايةً- ولا بدَّ من مراعاةِ خصوصيَّات آحاد الأعمال ثانِيًا (السياق الخاص)، وسيتبيَّن هذا أكثر في المقال.
وقد رأينا في “تجديد الحبكة” كيف أن انتقال الحبكة من كونِها قالبًا نقديًّا للمسرحيَّة، إلى الرواية، قد أثَّر فيها مفهوميًّا بدرجة أدخلت فيها ما لم يكن ليدخل في المفهوم الأرسطيّ، لاختلاف الوسط الفنيّ، فاختلاف الوسط الفنيّ الذي نُطبِّق عليه المفهوم، يصنع تفاوتًا كبيرًا في كيفيَّة التعامل والتطبيق، والانتباه لهذا الفارق مهمٌّ جدًّا، وهذا موضعٌ زلَّت فيه أقدام كثيرٍ من المتحدِّثين؛ فتراهم يُجرُون المفهوم دون مراعاةِ تغيُّر الوسط الفنيّ أصلًا، ثُمّ مراعاةِ السياقات الخاصَّة لكلّ عملٍ فنيّ.
وذكرنا في المقالةِ ذاتِها أيضًا أن الأحداث النفسيَّة الداخليَّة داخلةٌ في مفهوم الحبكة، كما بيَّنَ فورستر حين نقَدَ المفهوم الأرسطيّ وأصَّل لنقد الرواية. ونبني على ذلك هنا أيضًا: أن تطوّر الشخصيَّات، وتفاعلها، والأحداث النفسيَّة التي تتعرَّضُ لها= كلُّها أمورٌ داخلةٌ في الحبكة، على الأساس نفسِه.
تضخُّم السياقات الخاصَّة
لا يخفى عليك -عزيزي القارئ- أن الأنمي مزيجٌ من الجانب البصريّ والجانب الكتابيّ، وهو يفترق عن الروايةِ في الأوَّل، ويفترقُ عن المسرحيَّة وكافة الفنون التمثيليّة في اعتماده في الجانب الأوَّل على الرّسوم لا على التمثيل (وبين هذه الفنون فروقٌ لا تعنينا الآن) وهذا الفرق يُفضِي إلى سياقٍ خاصٍّ للأنمي، مبنيٍّ على أسلوب صناعته وكتابة مادّته، يجعل التَّعاملَ معه مختلفًا بالضرورةِ عن بقيَّة الفنون.
للجانب البصريّ في الأنمي معنى، للرموز -إن وُظِّفَتْ بشكل جيِّد يخدم القصَّة دون افتعال- قيمة كبيرة، فلا يُمكن أن نسحب عناصر جودة الحبكة في القِصَصِ المكتوبة -على اختلاف القوالب الفنيّة التي تنتمي إليها- على الأنمي، إذ يقوم الأنمي على خليطٍ من الجانبَيْن بشكل مكثِّف أكبر من المسرحيَّة بكثير.
تصلُ القصّة، والفكرة، والأحداث، والشخصيَّات جميعًا إلى المُتلقِّي -في حالةِ الأنمي- بهذا المزيج، واعتماد العمل على أحَدِهما دون الآخر يُفضي به إلى الاختلال لتهميش إحدى الرَّكيزتين التي ينبني عليها الفنّ، ويُولِّد اختلافُ الأوساطِ الفنيَّة مشاكل كثيرة حتى في تنقُّل الأعمال الفنيَّة فيما بينها (رواية إلى أنمي، ومانجا إلى أنمي، ورواية إلى فلم..الخ) نظرًا لاختلاف السِّياق.
وإن عُلِمَ هذا الاختلاف العامّ بين الفنون، ينبغي التنبيه إلى الفروقات السياقيَّة الهائلة داخل الفنّ نفسه؛ ففي الفنِّ تصنيفات يُحتِّمُ كلٌّ مِنها النَّظَرَ إلى العمل بكيفيَّة محدَّدة ويُسقِطُ الاعتماد على معايير صنفٍ آخر، كما في حالة الشونين واحتوائه، في الأعمّ الأغلب، على عناصر تتوافق مع كونه موجَّهًا إلى فئة عمريّة محدّدة، وكذلك على عناصر قصصيَّة متكررة كالمبالغةِ والمشاعر والقوالب التي يسهلُ توجيه أيّ نصرٍ للبطل بها، وانعدام النضج والعمقِ فيها أو في جُلِّها (رُوَيْدكَ أيها القارئ النَّاقِدُ العزيز! سأتعرَّضُ لمفهوم العمقِ في عددٍ آخر!)
ومن ثم لا يُمكن انتقاد أعمال الشونين بمثلِ هذا، اللهم إلا أن تقول: هذا الصِّنفُ بذاته كلُّه سيئٌ أصلًا! فهذا، وإن كان خطأ، يحوِّل النقاشَ إلى وجهة أخرى هو ما استندتَ عليه، لأنَّه ما بنيتَ عليه حكمك. وعندي أن لأعمال الشونين -نَظَرًا للمعايير العامَّة التي حدَّثتُك عنها- في الأعمّ الأغلب حدودًا فنيَّة لا يتجاوزها ومِن ثمّ لا تصل جُلُّ أعمالِه إلى أن تكونَ الأقوى فنيًّا، مع استثناءاتٍ قليلة.
إذا تركنا التصنيفات، جئنا لنُحارِبَ التنميط مرَّة أخرى بالقول: لا ينبغي -أيضًا- الحكم على العمل بتصنيفه، فإن هذا يوقع في إجراء معاييرَ متعسفة عليها، بل ينبغي -كما أسلفنا- النظرُ في سياق العمل نفسه، وملاحظة قصته وما بُني عليه، وشخصيَّاته وأفكاره وأحداثه، وطريقته في تناول القضايا التي يطرحها.
وهكذا يتبيَّنُ لك معنى العنوان الجزئيّ: تضخّم السياقات الخاصّة. فالأنمي -إن نظرنا إليه فنًّا من ضمن فنون- سياق خاصّ، وإن نظرنا إليه فنًّا تندرج ضمنه تصنيفات وأعمال كثيرة، فهو عنوان عام. وتحتَ هذا العنوان العام تندرج سياقات خاصّة على طبقتين، الطَّبقَة الأولى: التصنيفات، وكلّ منها سياقٌ خاص وعنوان عام في الوقتِ ذاته= أما الطّبقة الثانية: فهي آحاد الأعمال، وكلّ منها بحياله سياق خاص.
ولا يتوقَّفُ الأمر عند هذا الحد، فبداخلِ كلّ عمل، سياقاتٌ كثيرة لكلها -كما قلنا في المقال الأوَّل- وِحدةٌ لا يُمكن تجزئتها إلا لأغراض تحليليّة، يتأثَّرُ بعضُها ببعض، ولا بُد من الإلمام بها جميعًا للتوصُّل إلى حكمٍ فنيّ كليّ على العمل.
انتباه أرسطو للسياقات الخاصّة
لعلَّك تتذكّر -عزيزي القارئ- قولي لك في “تنويع الحبكة” إن أرسطو انتبه إلى مسألة السياقات الخاصَّة، يتَّضِحُ هذا بملاحظة كثيرٍ مما قاله، غير أنَّني سأكتفي بنقلٍ واحد اختصارًا للوقت. قال أرسطو: “إن التراجيديا ليست محاكاة لفعل تامٍّ فحسب، وإنما هي أيضًا محاكاة لأحداثٍ تثير الخوفَ والشفقة. ويتحدَّثُ لمثلِ تلك الأحداث تأثيرٌ أقوى -من حيثُ إثارة الخوف والشفقة- عندما: [أ] تقع فجأةً وبلا توقّع، [ب] وعندما تَتَتَابع، ويتوقَّفُ أحدُها على الآخر في نفس الوقت. وعلى هذا، فإن الاندهاش المتولِّد يكون أعظمَ مما لو وقعت الأحداث من تلقاء ذاتِها، أو بالمصادفة. وحتى الأحداث التي تقعُ اتفاقًا، أو بالمصادفة، تبدو أكثر إدهاشًا عندما تتمّ وكأنَّها وقعت عن سابِقِ تخطيط.”
لاحظ معي عزيزي القارئ، يتحدَّثُ أرسطو عن التراجيديا، التي تُحاكي واقعًا مأساويًّا تامًّا لشخصيَّة ما (وقد شرحنا شيئًا من هذا التعريف فيما مضى ووعدنا بالتعرُّض لمفهوم المحاكاة في مقال مستقلّ) ومِن ثَمّ فإنَّها تقوم على أحداثٍ تُثير الخوف والشفقة. هذا سياقُ التراجيديا، ما أكثر ما يُمكن أن يُحقّق هذا في التراجيديا؟ يُجيبك أرسطو: وقوع الأحداث فجأةً وبلا توقّع (twist) ولكن في الوقتِ ذاتِه تكون مبنيَّة على بعضِها بقانون الحتميّة أو الاحتمال، الذي شرحناه مرارًا.
الاندهاش المتولِّد يناسبُ التراجيديا وتلقِّيها، ومِن ثَمّ يُستحسنُ فيها، لكن عزيزي القارئ، هل كل أنمي يناسب سياقه توليد هذا الاندهاش؟ هل لو شاهدتَ عملًا يُصنف شريحة من الحياة Slice of Life وكان مع ذلك يُعطيك أجواء الارتخاء والرَّاحة والحياة اليومية البسيطة، هل سيُناسبُه هذا الذي يُناسب المسرحيَّة التراجيديَّة؟
تخيَّل معي، أنَّ عملًا مثلَ باراكامون Barakamon ذبَح البطلَ أو الطِّفلة في النهاية، هل سيُرضيك فعلٌ كهذا؟ لا! لمَ؟ لأنه ليس مبرَّرًا من سياق القصّة ذاته. باراكامون يتناوَلُ قصّة تقوم كلّها على ابتعاد خطَّاطٍ عن المدينة وعيشه في الرِّيف وانسجامه مع أهله، فأيّ حدثٍ لا يتوافق مع هذا سيخرق قانون الحتميَّة أو الاحتمال. ويتبيَّن لك بهذا قولي إن “الاحتمال” المعنيّ هو الاحتمال المُعتبَر في سياق العمل، لا مطلق الاحتمال العقليّ.
بل حتى الأعمال التراجيديَّة في سياقها، لا يُناسبُها دائمًا هذا الاندهاش والأحداث المفاجئة، وخُذ مثلًا كلاناد Clannad، وانظر إلى كلٍّ من الأحداث التراجيديَّة فيه: هل كانت مفاجئة؟ لا! لأن العملَ ليس مبنيًّا على عنصرِ المفاجأة، وفنُّ الأنمي يختلف عن فنِّ المسرحيَّة لعواملَ كثيرة منها الوقتُ وطريقة معالجة الحدَث ومحل استلهامه والتأثير المنتظر منه، حتى إن تشابه الاسمان وقلنا: هذه مسرحيَّة تراجيديَّة، وهذا أنمي تراجيدي.
ونَدَع هذا إلى تناولَ مفاهيم تطبيقيَّة أخرى يختلف فيها هذا الوسط الفنيّ.
الحبكة “الإبسودية” وانعدام الحبكة
أشرنا في “تنويع الحبكة” أيضًا إلى قولِ أرسطو في الحبكة الإبسودية Episodic، إذ وصفها بأنها أردأ أنواع (الحبكة البسيطة) وعرَّفَها بأنها: “تلك التي تتتابعُ مشاهدُها التمثيليَّة، دون مراعاة قاعدتي الاحتمال أو الحتمية”، وقد كان أرسطو يتحدَّثُ عن المسرحيّة، وعن التراجيديا تحديدًا في هذا السياق.
كيف يُمكننا تطبيق هذا المبدأ على الأنمي؟ لا تتبّعُ الأعمال التي تقوم على نظام الانفصال بين أحداث الحلقات Episodic نمطًا واحدًا أصلًا، ففي حين نرى انفصالًا تامًّا أو يكاد في بعضها، كموشيشي Mushishi (لا يَكادُ عنصرٌ واحدٌ مشترك بين الحلقات يُوجد إلا عناصر بسيطة متعلِّقة بماضي غينكو) نرى انفصالًا جزئيًّا في بعضها الآخر، مع وجود قصّة مستمرَّة تتسرَّبُ في ثنايا الأحداث، وتظهر كلَّما تقدَّمت، ولعلّ مثال كاوبوي بيبوب Cowboy Bebop أشهر الأمثلة على هذا الثاني.
في أعمال كيورو كامب Yuru Camp، لا تتناوَلُ القصَّةُ أكثر من فتياتٍ يذهبن للطبخ والتخييم، تتسع دائرة الشخصيَّات شيئًا فشيئًا، وتتفاعل معًا بوديَّة وصداقة، في هدوءٍ تام، هل يُحكم على مثلِ هذه الأعمال جميعًا بالرداءة؟ ثُمّ هل يُحكم عليها بانعدام الحبكة أصلًا، لعدم قيامها على قانون الحتميَّة أو الاحتمال؟
أما السؤال الأوَّل: لا طبعًا، فإن الوسط الفنيّ تَغيَّر، وقد باتَ يتَّسِع هذا الوسط الفنيّ الجديد لإنتاج أعمال تقوم أصلًا على نظام الحلقات، والنظرة السليمة أن نشبِّه كلّ حلقة من هذا النَّوع من الأعمال بمسرحيَّة مستقلّة (خصوصًا أعمال الطريقة الأولى من النوع، أما الأعمال الثانية، فبوسعنا أن نقول إن الحلقات الخالية من القصَّة الهيكيليَّة العامة هي التي تُشبَّه بالمسرحيَّة)
لا يعني هذا طبعًا أن ننظر لكلّ حلقة على أنها مسرحيَّة ونحكم عليها بالمعايير ذاتِها، بل يعني أن هذا أقرب تَشبيهٍ لإيضاح المعنى، ولمثلِ هذا أصلٌ في الفنّ المسرحيّ، إذ تتناوَلُ كثير من المسرحيَّات الشخصيَّة ذاتَها بمعالجاتٍ مختلفة، وأحداث مختلفة (اذهب مثلًا إلى المقدِّمة التي كتبَها عبد الرَّحمن بدوي في هذا الكتاب لمسرحيَّة “أوديب ملكًا” لسوفقليس، وانظر كم مسرحيَّة، مما وصلنا فقط، تناول فيها سوفقليس شخصيَّة أوديب وعالج أحداثها!)
وأما السؤال الثاني: لا نشكّ أن أعمالًا كموشيشي (النوع الأول) وكاوبوي بيبوب (النوع الثاني) قائمةٌ -في حبكتِها- على قانون الحتميَّة أو الاحتمال، سواءٌ نظرنا إلى الحلقات المنفصلة من كلا النوعين، أو الحلقات المتعلّقة بالقصّة الهيكليّة العامة في النوع الثاني. ففي الحلقات المنفصلة نفسها حبكة في كليهما، وبين الحلقات الحاكية للقصة الهيكليَّة -في النوع الثاني- حبكة أيضًا. يُمكنك أن تُطبِّقَ هذه النظرة، وتصلَ إلى الحكم على جودة العمل من جهة الحبكة، في كلّ الأعمال التي تتبعُ هذا النِّظام.
لكن ماذا عن يورو كامب؟ تترابطُ أحداثُ يورو كامب فيما بينها بالحجم الذي تتطلّبه، فالصداقات الناشئة تستمرّ مثلًا، والأحداث داخل الحلقة تقود إلى بعضِها، وهذا يذكِّرنا بما قلتُه لك مِن أن “الاحتمال” في قانون الحتميّة أو الاحتمال إنما يُحدَّد بسياق القصّة وما تحتمله، لا بمطلق الاحتمال العقليّ لوقوع حدث لاحق نتيجة لحدثٍ سابق. فهل بوسعنا أن نقول: إن سياق عملٍ مثل يورو كامب، لا يتطلَّب أكثر من هذا المقدار الواسع جدًّا من الاحتمالات المُمكنة للأحداث، مع الحتميّة؟
أرى أنه بوسعنا أن نقول مثلَ هذا، ولكَ -إن شئتَ- عزيزي القارئ أن تصطلح على مثلِ هذه الأعمال (أعني يورو كامب وما يشبهه) أنها أعمالٌ “منعدِمةُ الحبكة”، وإن كنتُ أخالفك في مثل هذا الاصطلاح، لكن على أن لا تجعل “انعدام الحبكة” المزعوم هذا وسيلةً لإسقاط العمل فنيًّا، فهذا ليس إنصافًا منكَ.
تعقيد الحبكة في سياق التطبيق
يتَّضِحُ لك إذًا، أن كلَّ نظرةٍ في تقييم الحبكة فنيًّا لا بُدّ أن تكون مبنيَّة على ملاحظة السِّياق، ويجري هذا على نوعَي الحبكة (البسيط والمعقّد) ووجود التحوّل والتعرّف فيها، وقد عرَّفنا جميع هذه المفاهيم في “تنويع الحبكة” أيضًا. علينا أن ننظُرَ إلى العمل، هل يتناسب سياقه مع الحبكة البسيطة أو المُعقَّدة؟ ثمّ إن كان يتناسب مع الحبكة المعقّدة، في أي محلّ ينبغي أن يحصُل التحوّل والتعرّف؟ وما نوعه؟ هل كان هذا مناسِبًا أو لا؟
عملٌ مثل فل ميتل Fullmetal Alchemist Brotherhood مثلًا [بعض ما سأذكره حرق فاقفز إلى نهاية الفقرةِ إن لم تكن شاهدتَه] احتوى على كمٍّ كبير من التحوُّلات والتعرُّفات؛ يكتشف البطلُ حقيقةً لم يكن يعرفها فتتغيَّرُ نظرته للشخصيَّات (كما في “التعرّف” الذي الحاصل في اكتشاف البطل) وكذا في اكتشافنا حقيقة بعضِ الشخصيَّات، كاكتشافنا كون الملك برادولي “هومنكلوس”.
واختلاف السياق أيضًا يُفضي إلى نقطةٍ أخرى، فالحبكة البسيطة والمعقّدة، والتحوّل والتعرّف، كلُّها مفاهيم استلَّها أرسطو من الفنّ الذي كان يُنظِّرُ له (المسرحية بشكل أساسيّ) ومن ثَمّ فإجراؤها كما هي على الأنمي متعذِّر، وهذه من تأثيرات حدّ الوقت، ومحدودية المادّة المُتناوَلة في المسرحيَّة، وأرسطو نفسُه يذكر ضرورةَ معالجة موضوع محدَّدٍ من حياة البطل ترتبط أحداثه برباط الحتمية أو الاحتمال.
ستُلاحظ في كلّ هذه المفاهيم أنها تتمركز حول البطل، ولا يرتبط فنّ الأنمي بالبطل بالشدّة التي يرتبط بها فنُّ المسرحيَّة، إذ مادّة الأنمي أشدّ تشعُّبًا نتيجةً لسعة المحتوى الذي تُقدِّمه إجمالًا، ومن ثَمّ تغطِّي موضوعاتٍ وشخصيّات كثيرة نسبيًّا. لذا فلا بُدّ من توسيع هذه المفاهيم، وجعلِها مرِنَة، ليُمكن استعمالُها في توصيف الحبكة في إطار الأنمي.
أما من حيثُ الجودة، فإن رُوعي السياق بالطريقة المطلوبة، يظلّ ميزان الحبكة واحدًا: نحلِّلُ فكرة العمل، وشخصياته وأفكاره، وسائر عناصره (بالمعنى الذي ذكرته من أن التجزئة تحليلية بحتة) ثُمّ نصِلُ إلى الحكم عليه بقانون الحتميَّة أو الاحتمال أيضًا.
ولنأخذ مثالًا على ذلك هو أنمي شارلوت Charlotte [تخطَّى الفقرةَ إن كنت تنوي مشاهدته] ففي منتصفِ الأنمي تُفاجأ، دون أن يكون السياق محتمِلًا لذلك، بموتِ أختِ البطل. لا أتحدَّثُ هنا عن التمهيدات التي حُشِدَت لهذا الحدث، بل عن العملِ نفسه: هل كان مهيَّئًا وفق قانون الحتميَّة أو الاحتمال لحدوثِ هذا؟ لا، لم يُهيَّأ السياق، بل كنتَ تشاهد عملًا يتعلَّق بأحداثٍ محتملة أخرى تتعلَّق بذوي القدرات الخارقة وما يتعلَّق بهم، لا بحادث تراجيديّ يغيّر مسار القصّة بهذه الطريقة.
الحدث المفاجئ الصادم المُغيِّر للمسار twist لا يتناقض مع التهيئة وفق ميزان الحبكة، فإن وجود احتمالاتٍ كثيرة، من بينها هذا الحدث المفاجئ، لن يُغيّر من كونه مفاجئًا حين يقع. الفارقُ يكمنُ في السياق، وفي إمكان البناء على الحدث السابق للتوصّل إلى حدث، مع إبقاء ذهن المشاهد منصرفًا إلى أحداثٍ أخرى.
الجانبُ البصريّ من الحبكة
هنا أصلُ وإيّاك -عزيزي القارئ- إلى موضعٍ أرجو أن لا تزلَّ قدَمِي فيه! وهو جزءٌ آخر من توسيع الحبكة، ثمّة أحداث غير مرئيَّة في الأنمي، وكذلك في المانجا (وستلاحظ أن كثيرًا من المذكور في هذا المقال أو كلّه يمكن تطبيقه عليها). سآخذ مثالًا من المانجا، كنتُ قد تحدَّثتُ عنه في حسابي الماضي على (تويتر).
في مانجا طوكيو غول Tokyo Ghoul [تجاهل الفقرة إن كنتَ لم تقرأها] يغيبُ كانيكي طويلًا عن توكا بعدَ أحداث تعذيبه في الجزء الأوَّل، هنا: ستجدُ أن الحبكة تستمرّ مع غياب الجانبِ البصريّ، لا يلتقي كانيكي وتوكا إلا بعد وقتٍ طويل، غيرَ أن مشاعرهما -وخصوصًا مشاعر توكا- في ظلّ هذا الغياب باقيةٌ وتصلك أنت المتلقّي، إذ إن بناء علاقتهما يُهيّئ القارئ لاستقال هذا البُعد. لذا حين التقيا من جديد، كانت دراميَّة المشهد بينهما عظيمة جدًّا، رغم هذا الغياب “البصريّ” الكبير، إن جاز التَّعبير.
ثمّة أعمال ينعكس فيها هذا التأثير، ففي إيفانجليون Neon Genesis Evangelion [تجاهل الفقرتَيْن الآتيتين إن كنتَ لم تشاهِدْه أو تشاهد فلم End of Evangelion] -وأرجو أن لا يغتالَني أحدُهم بعد هذه الفقرة!!- تحصلُ عدّة أحداثٍ تختلّ بعدها الحبكة بشدّة، فتأثير الانهيار النَّفسيّ الذي تتعرَّض له آسكا بسبب تدهور قدرتها على قيادة الإيفا، لا يظهر بصورة كافية أبدًا، وهو وإن مُهِّد له بمعرفتنا لشخصيَّة آسكا لا يُبقِينا على اتصال بشخصيّتها، ومِن ثَمّ لا يظهر تأثير الحدث عليها بشكل كافٍ (وقد فصَّلنا في “تجديد الحبكة” قضيَّة أن تطوّر الشخصيات وتماسك كتابتها وظهور مشاعرها كلُّها أمورٌ تدخلُ في الحبكة)
لا يقتصرُ الأمرُ على آسكا، فظهور تأثير موت كاجي على ميساتو شبهُ معدوم عدا مشهد، أودّ التنبيه أنني لا أقصد وجود مشهد أو مشاهد تحكي هذه الجزئيَّة، بل تأثير الحدث الفارق هذا في الشخصيّة تأثيرًا أساسيًّا يمتدُّ إلى كيان الشخصيَّة، والمفارقة السيئة في هذا الأمر (وهذا استطراد لأنَّه متعلِّق بنقدِ الحبكة عمومًا) أن شينجي، رغم تفاعل شخصيّته طول العملِ مع آسكا وحبّه إياها، “يكتئب” بعد موت شخصيّة لا قيمة لها أصلًا هي شخصية الملاك الأخير (نسيت اسمه لأنه لا معنى له في الحياة) ويتعلّق بها بسرعة، إلى درجة أن آسكا تصرخ في الفلم، وهو لا يكترث! ليس هذا نقدًا للشخصيَّة في سياق العمل، بل هو نقدٌ لكتابتها. هذه الجزئيّات من إيفانجليون نقصت من جودته الكثير في رأيي. وعلى كلّ حال يمكنك القراءة المزيد عن رأيي حول هذه الجزئيَّة من إيفا هنا.
أنوّه إلى أن حضور الجانب البصريّ يستدعي وجودَ حدث، والعكس غير صحيح (انعدام جانب بصري/مشهدٍ لشيءٍ ما لا يعني عدم الحدث، كما وضحنا في مثال طوكيو غول) ومن ثمّ يندفع اعتراض من قد يقول: لا وجه لتخصيص الجانب البصريّ في الحبكة، إذ هو مُلازم للحدث.
ثمّة كثيرٌ من المفاهيم الواردة في المقالات السالفة، يُمكن ملاحظتُها في الحبكات بسهولة ولا تستدعي التعرّض لها بشيء من التفصيل والتطبيق، لذلك سأقتصر على هذا القدر. وأنبِّه إلى أنني لم أطرح الأمثلةَ ليُركَّز عليها، بل طرحتُها للبيان والتطبيق. قد تختلفُ معي في بعضها، على أنّ كلينا يعلم -عزيزي القارئ- أنني المُصِيب!
ختامًا، ننتهي في هذه المقالة من الحبكة، وإنّي لَأشكُرَ لَكَ صبرَك عليَّ -عزيزي القارئ- طول هذه المقالات، وأرجو منك أن تبقى معي لتقرأ المقالات القادمة عن المواضيع الأخرى التي سنتعرَّضُ إليها.
شكـررراا شكررراًاً شكررراًاً شكررراًاً، بعرف أنها لن تكفي مجهود أناملك ولكن هذا الذي أستطيع تقديمه لك .
قرأت أول مقالة بالصدفة ويالها من صدفة ذهبية وسعيد أن ختمت السلسلة، وأصدقك القول أني تغيرت لدي الكثير من المفاهيم وبالأخص بعد أول ٣ مقالات، وربي يسعدك ويخليك لنا
كل الشكر الجزيل لك على كلماتك الطيّبة، وأنا أسعد منك إذ أعلمتني أنني أفدتك، وبدعائك لي. دمت بودّ وأرجو أن يكون في المقالات القادمة ما يسرُّك أيضًا.