أهلًا بكم.. أتممنا في المقالة الماضية تَجرِيد الحبكةِ، فتعرَّضنا إلى تعريفِها، وأصول مفهومها، وميزانها، ووحدتها. ونبَّهنا إلى قانون مهمّ فيها كرَّرهُ أرسطو مرارًا -إذ هو ميزان الحبكة كما نقلنا- وهو قانون “الحتميَّة أو الاحتمال”، الذي يمكننا أن نعيد تعريفه بأنه: القانون الذي ينصّ على أن ترتُّبَ الأحداثِ على بعضها في الحبكة القصصية يجب أن يكون مبنيًّا إما على حتميَّة وقوع الحدث اللاحق، أو احتماله.
ومثَّلنا لذلك سابقًا، كما نبَّهنا إلى أهميَّة السياق في كل هذه الأمور، إذ هي أمور اعتباريَّة، لا تتناول مُطلَقَ الاحتمال العقليّ، بل الاحتمال المقرون بملاحظة سياق العمل الفنيّ.
في هذه المقالة، أصل وإياك -عزيزي القارئ- إلى تقسيم الحبكة، وأجد لزامًا عليَّ أن أُعْلِمَكَ أنّ أرسطو يتناول تقسيم الحبكة من جهتين: جهة وصفيّة، وجهة الجودة، أما في الجهة الوصفية فإنه يتناول بساطة الحبكة وتعقيدها، وأما في جهة الجودة فهو يُقيّم قوة الحبكة وتماسكها من خلال توفّر معايير محددة فيها أو لا.
لكنني اخترتُ أن أغيّر ترتيب تناول أرسطو، لأن غايتي هنا ليست عرض كتابه، بل غايتي تناول موضوع محدد منه، سنتناوَلُ قبل أن نمضيَ إلى تقسيم الحبكة مفهومين أساسيين، عليهما المدار في تشخيص أرسطو أمرَ الوصفِ والجودة، فهلمّ -عزيزي القارئ- معي، وألتمس منكَ مجدَّدًا أن تصبِر، فإنك إن شاء الله واجدٌ فائدة بل فوائد.
أجدُ لزامًا عليّ أن أذكِّرك أن أرسطو يتناول هنا موضوع المسرحية، وتحديدًا في هذا السياق: التراجيديا (المأساة) فعليك أن تضع هذا نصبَ عينك، كما أذكِّرُكَ أنني لست الآن في مقامِ بيان الفروقات الفنيَّة بين المسرحية عمومًا والتراجيديا خصوصًا من جهة، وأشكال الفن الأخرى (ومنها الأنمي) من جهةٍ أخرى، وإمكانيَّة تطبيق هذه المفاهيم مع اختلاف الوسط الفنيّ، فإنني سأتناوله في وقتٍ لاحق كما قلتُ لك.
أوَّلًا: التحوُّل والتعرَّف
يُمكن أن نقول إن هاتين تقنيَّتان تُستعملان في الحبكة، وينبغي علينا أن نعرف معناهما قبل أن نمضي. كان أرسطو قد قال في حدِّ الوقت في التراجيديا ما سيلزمنا لنفهم التحوّل والتعرّف: “يُمكن القول [إنَّ] الحد الصحيح والكافي للحبكة، هو الطول الذي يسمح للبطل بأن ينتقل -خلال سلسلة من الأحداث الممكنة أو الحتميَّة- من حال الشقاوة إلى حال السعادة، أو من حال السعادة إلى حال الشقاوة.”
ثم يعرِّفُ أرسطو التحوُّلَ بقوله: “هو تغيُّر مجرى الفعل إلى عَكْسِ اتجاهِه، على النحو السابق ذكره؛ على أن يتفق ذلك مع قاعدة الاحتمال أو الحتمية كما قلنا آنِفًا.” ثم يضرب أرسطو مثالًا من تراجيديا، لا بأس بأن نورده فهو يساعدنا في فهم المقصود حتى دون معرفة سياق القصة، يقول: “ففي تراجيديا (أوديب) مثلًا يأتي الرسول، وفي تقديره أنه سيُبهج أوديب ويخلّصه من مخاوفه المتعلقة بأمه، ولكنه يحدث عكس التأثير الذي انتواه، عندما يُطلعه على سر مولده.”
يوضِّح هذا المثال معنى التحوُّل، ثمّ يُعرِّف أرسطو التعرُّف بقوله: “والتعرُّف -كما يدلّ عليه اسمه- هو التغيُّر، أو الانتقال من حال الجهل إلى المعرفة، مما يؤدي إلى المحبَّةِ أو إلى الكراهية بين الأشخاص الذين قُدِّرت عليهم السعادة أو الشقاوة.”
ولا يظهر أن قوله “مما يؤدي إلى… الخ” قَيْد، فإنه لا يظهر أن أرسطو يُخرجُ الأحداث التي يحصلُ فيها انتقالٌ من حال الجهل إلى المعرفة، ثُمّ لا يحصل فيها محبة أو كراهية بين الأشخاص= مِن دائرة مفهوم “التعرُّف”، لكن نَدَعُ هذا الآن.
وبعدَ التعريف، يقيِّم أرسطو “التعرُّفات” المختلفة بقوله: “وأجودُ أنواع التعرُّف، هو التعرُّفُ المقرون بالتحوُّل، كما هو الحال في تراجيديا أوديب.” (انظر المثال أعلاه)
وبيانُ ما قاله أرسطو أنَّ إخبار الرسول قد جعل أوديب يعرف حقيقة سر مولده، ومن ثم فهو تعرُّف مقرون بالتحوّل. وكما قلنا ليس من المهم معرفة السياق التام، فبإمكانك قراءة مسرحية “أوديب ملكًا” لسوفقليس من هذا الكتاب، وهي مسرحية عظيمة. لاحظ أيضًا -عزيزي القارئ- أن حيثيَّة “المحبة أو الكراهية” ليست موجودة في هذا المثال، مما يعزز صحة استظهاري الآنف، وإنما يكفي حدوثُ تأثيرٍ ما في سياق القصَّة.
يعلِّلُ أرسطو كونَ هذا النوع أجوَدَ أنواع التعرُّف بما يتصل بسياق التراجيديا، إذ يقول: “فهذا النوع من التعرُّف -المقرون بالتحوُّل- يُثير إما شفقةً وإما خوفًا. والأفعال التي تؤدي إلى مثل تلك التأثيرات -أي الشفقة أو الخوف- إنما تلك التي تسبِّبُها التراجيديا، طِبقًا لتعريفنا لها.” وأخيرًا يُبيّن أرسطو أن مثلَ هذا التعرُّف قد يؤدي إلى نهاية سعيدة كما قد يؤدي إلى نهاية غير سعيدة، ولا يقتصر على نوع نهاية محدد، ويذكر أشكال التعرُّف المحتملة.
ثانيًا: تقسيم الحبكة من جهة وصفيَّة
يُقسِّم أرسطو الحبكة إلى “حبكة بسيطة” و”حبكة معقَّدة”، إذ يقول: “والحبكة الدراميَّة إما أن تكون بسيطة أو معقدة. وأفعال الحياة الواقعية -التي تُحاكيها الحبكات- تؤكد مثلَ هذا التميُّز.” يعني أن الواقع الذي يُعالجه الشاعر/كاتب المسرح يؤكد هذا التقسيم (سنعود إلى مفهوم المحاكاة في وقت لاحق من السلسلة النقدية كما قلنا).
يُعرِّف أرسطو الحبكة البسيطة بقوله: “وأعني بالحبكة البسيطة: ذلك الفعلَ الواحد المتواصل… والذي يتغيّرُ فيه خط البطل دون حدوثِ تحوُّلٍ أو تعرُّف” أي إن الحبكة البسيطة، هي تلك التي تحصل فيها أحداث متواصلة مبنية على قانون الحتمية أو الاحتمال، دون أن يكون فيها تحوُّل أو تعرُّف، وقد عرَفتَ معناهما.
أما الحبكة المعقَّدة، فيعرّفها صاحبنا بقوله: “أما الحبكة المعقّدة، فهي التي يتغيَّرُ فيها حظ البطل، إما عن طريق التحوُّل، وإما عن طريق التعرُّف، وإمَّا بهما معًا.” ولا يفوتُ أرسطو أن ينبِّهك، كما أفعلُ أنا دائمًا، لأنني أحبّك -عزيزي القارئ!- بقوله: “ويجبُ أن يتولَّد التحوُّل، أو التعرُّف، من صميم بناء الحبكة نفسِها، وأن يكون كلاهما نتيجةً حتميَّةً أو محتملةً لما وقَعَ من أحداثٍ سابقة.” ثمّ لا يفوته أيضًا أن يؤكِّد لك فكرته بقوله: “وثمَّة فرْقٌ شاسع بين أحداث يتولَّد الواحدُ منها من الآخر -أيّ كلُّ واحد منها نتيجةٌ طبيعية لسابقه- وأحداثٍ يتلو بعضُها بعضًا.”
قد يذكِّركُ هذا بالأعمال التي تفتعل التحوُّلات Twists بصورة غير منطقيَّة، لإضفاء صورةٍ غير تلك التي تناسب العمل غَصْبًا ودون أن يكون هذا التحوّل من صميم العمل نفسِه، هذه لفتة، وللتطبيق محلٌّ آخر.
وهكذا يفرغ أرسطو من تقسيم الحبكة باعتبار البساطة والتعقيد، ولا يتناول أرسطو الجودة هنا، بل لا يعدو أن يصفَ لك بناء الحبكة، وأعيدُ تذكيرك بالسياق الفنيّ الذي ينظّرُ أرسطو له تحديدًا.
ثالثًا: تقسيم الحبكة من جهة الجودة
لعلّك ستفكِّر في لطمي -عزيزي القارئ- إن ذكَّرتُكَ مُجدَّدًا أن أرسطو يتحدَّثُ عن المسرحية عمومًا، وفي هذا السياق عن التراجيديا خصوصًا، وأننا سنتعرض لتطبيق الحبكة في وقت لاحق= وستصرخ في وجهي: فهمت! أقسم لك بالله أني فهمت ولم أنسَ، فأكمِل! وحينها سأقول لك: جيد، عزيزي القارئ، لك ما شئت، سأكمل! ولن أعيد تذكيرك!
يقول أرسطو: “وأردأ أنواع (الحبكات البسيطة)، والأفعال= ما يَتَّصِفُ بـ(الإبسوديَّة) Episodic. وأعني بالحبكة الإبسودية، تلك التي تتتابعُ مشاهدُها التمثيليَّة، دون مراعاة قاعدتي الاحتمال أو الحتمية. والشعراء الأردياء، هم الذين يؤلِّفون -من عند أنفسهم- مثلَ هذه الحبكات. أما الشعراء المجيدون، فإنهم يقصدون إلى ذلك كي يرضوا الممثِّلين؛ فهم حين يكتبون أعمالهم لتُعرَض على الجمهور، فإنهم -غالبًا- ما يمطّون الحبكة أكثر مما تحتمل طاقتها الطبيعيَّة [عزيزي القارئ!! انظر إلى هذا الذي يقوله أرسطو منذ متى كان موجودًا!!] ومِن ثَمّ، يُضطرُّون إلى إحداث خلخلة في تسلسل الأحداث [يا إلهي!! المرض موجود منذ فجر التاريخ!!].”
(إحم، لن أتحدث عن التطبيق. التطبيق له وقته. لا! عزيزي القارئ! قلتُ إنني سأرجئ التطبيق إلى وقتٍ لاحق! أرجو أن تتفهَّم!)
من المثير للانتباه، أن ثمة نقاطًا، بعد هذا النَّقلِ تحديدًا، تدفعك أكثر إلى مراعاة اختلاف السياقات والأشكال الفنيَّة في تطبيق الحبكة، مما يشجعني أكثر على هذه النظرة، ويُثبتُ أيضًا عبقريَّة أرسطو في تناوله للعمل الفني والتزامه بسياق الشكل الفنيّ المُتناوَل! (الذي هو غالبًا الدراما، مع تناول أمور تتصل بالملحمة، إذ الكتاب في “الشعر” عمومًا الذي كان تُكتب به المسرحيات والملاحم).
ختامًا، إلى هنا أكون قد انتهيت من هذا الجزء، لن أتناول تطبيق الحبكة غالبًا في المقال القادم، بل ستكون لنا وقفة أخرى ضرورية في تحرير مفهوم الحبكة، كنت قد تعرَّضتُ إليها سابقًا؛ أعني تعلُّق الحبكة بالكتابة وتماسك الشخصيَّات. نتوقَّفُ هنا، وإلى لقاءٍ قريب، عزيزي القارئ!
ايش رايك تحاول تنزل كلام ارسطو على انمي او فلم كمثال مساعد لشرح مضمون كلامه
سأخصص مقالة تامة لذلك كما قلت.
كلام ارسطو عن الجودة خاص بالمسرحيات التراجيدية فقط زي ماقلت , otherwise اعتبرها قولبة شديدة للامانة
نعم هو يتحدث في هذا السياق عن المسرحية وعن التراجيدية منها تحديدًا رغم اشتراك النوع الآخر في بعض ما ذكره..
اقرأ المقالتين اللاحقتين لمعرفة، تناولنا انتقال مفهوم الحبكة للأوساط الفنية الأخرى. شكرًا على اهتمامك.