(العلاقة الوحيدة بين الصورة والمحتوى أن صاحب المحتوى يحبّ Serial Experiments Lain!)
أهلًا بكم.. كنت أظنّ، أو هكذا سوَّلت لي نفسي، أنّني لمَّا فرغتُ من مقالتي الأولى، فرغتُ من المُجمَل لأبدأ في المُفصَّل، فكنتُ في هذا الأسبوع أخطط لأعود إلى شتاتِ قراءاتي الماضية وأجمعها حتَّى أبدأ في الحديث عن الحبكة والتماسك وما إلى ذلك، غير أنَّ أحد الأصدِقاء -سامحه الله!- أطلعني على جُملة مقالاتٍ البارحة (أتحدّث حسب وقت كتابتي الآن لا حسب الوقت الذي ستقرأ فيه أنت هذه المقالة عزيزي القارئ).
واستوقفتني من بينها مقالة وجدتُ فيها منفذًا للتنبيه إلى نُقطة مهمّة، ومنزلق خطير يوقعكَ في مصيدة الكلمات الرنَّانة، لذا أزحتُ عن طاولتي جميع أوراقي (مجازًا طبعًا) وأرجأت الحبكة وما بعدها إلى وقتٍ لاحق. يمكن عَدُّ هذه المقالة متفرِّعةً على المقالة السابقة أو مرتبطة بها، ولعلّ بعض من قرأ سابقتها قادر على استشفاف المضامين التي سأصرّح بها في هذه المقالة، وإن كانت هناك بين السطور.
أودّ التنبيه إلى أن غرضي ليس إقناع الكاتب الذي سأتناول كلامه، أو الإساءة إلى شخصه الكريم، ولا حتى الردّ عليه، بل غرَضي فقط هو الرد على جزئية في سياق كلام موجّه لك أنت -عزيزي القارئ- فإن عهد السجالات عندي قد ولَّى! ولعلّ كاتب المقالة، والمنصّة (والعالَمِين جميعًا!) لا يعرفونني أصلًا وليسوا مهتمين بما سأكتبه، وأفضّل أن يبقى الأمر كذلك، فكل ما يهمني الآن هو أنت عزيزي القارئ (لا داعي للخجل والاحمرار، عزيزي القارئ!)
جيِّد، عزيزي القارئ، دعنا من المقدِّمات، جاء في مقالة على “أراجيك” بعنوان “النقد الفني: دليل مختصر لتحليل أيّ عمل فنيّ أكاديميًّا [!!] بسهولة [!!]”، لا يمكنني أن أتخطَّى العنوان، فهو يذكّرني بعناوين من قبيل “تعلّم الإنجليزية في ثلاثة أيَّام” أو “كيف تصير طبّاخًا ماهرًا في ثلاثة أيَّام”.
كل ما تحتاجه لكي تنقد أيّ عملٍ نقدًا “أكاديميًّا”!! (ولم أعد أدري بصراحة ما معنى هذه الكلمة مؤخَّرًا!) هو أنْ تأخذ من يومك الطويل (الذي تقضيه غالبًا في تناول البطاطس ومشاهدة المباريات ولا تفعل فيه شيئًا مهمًّا!) ربعَ ساعة أو أقل من ذلك، لتقرأ هذا المقال، ثم ستتمكن من ممارسة النقد “الأكاديمي” (وبسهولة أيضًا! يعني لن تبذل جهدًا حتى!).
حسنًا عزيزي القارئ، أطلنا مع العنوان، يقول الكاتبُ بعدها في المقدِّمة: “اليوم في أراجيك فن سوف نتحدث عن النقد الفني، أي أننا سنُعلمك كيف تُحلل الفيلم والمسلسل، كيف تُحلل الرواية، وفي المنتصف يمكنك أخذ الأسلوب الذي سنُعلمه لك، وتُطبقه على أي فن آخر مثل الغناء، الرقص… إلخ”
جميل، سنتعلَّم إذًا -بهذه الوصفة وفي ربع ساعة أو أقل- كيف ننقدُ الفنون جميعها، فلننظر. هنا تنتهي المقدِّمة (عدا كلام تحضيري لسنا مضطرين لنقله) ونبدأ في التعلّم، يقول الكاتب بعدَها مُعَنْوِنًا: “أمور لا يختلف عليها اثنان في النقد الفني” ثم يبدأ التعديد والشرح: “1) الموضوعيَّة في النَّقد الفني”
بالطَّبع، الموضوعية مهمة جدًّا، وقد فصَّلنا في المقال الماضي كيف تكون الموضوعية مزيجًا من معايير عامة وسياقات خاصة، وكلّ حكم على الفن يجب أن يكون قائمًا على منهج من الموضوعية وتعريف لها، وقد عَرَفْتَ فيما سبق نظرتي لها، لكن دعكَ مني، يقول الكاتب في بند الموضوعيَّة -وأي كلام بين أقواس هو مِنّي-:
“هذا أول شيء لا يجب أن يختلف عليه اثنان في النقد الفني على وجه العموم. سأبسط لك الأمر يا عزيزي. [تفضَّل!] قبل كتابة مقال نقدي أو تحليلي لأي عمل فني، بالتأكيد أنت ترتدي ملابسك التي ترتديها يوميًّا في أي مكان. [؟ نعم، على ما أظنّ..] سواء كنت وحدك، أو مع آخرين. تلك الملابس هي الأيدولوجية [!!] الخاصة بك، طريقة التفكير. تلك الطريقة التي تنطوي على المُعتقد والأخلاق والخبرات الحياتية، وكل شيء يُميز شخصيتك عن غيرك. عند بدء كتابة مقال، انزع عنك تلك الملابس كلها. [؟؟!!!] انزع عنك العقيدة والأخلاق وأي شيء يُمكن أن يؤثر على حكمك الفني تجاه العمل الذي أنت بصدد تقييمه. التقييم يكون فنيًّا بحتًا، بمنظور فني، لا بمنظور شخصي. المنظور الشخصي يُشوه العمل الفني الذي يمكن أن يكون رائعًا فعلًا، لكن كرهك مثلًا لمشاهد التعري، قد يُقنع القارئ أن الفيلم سيئ، فقط عبر إيهامك له بأنه سيئ، من خلال كرهك الذاتي للتعري، دون أن تعرف أهمية ذلك التعري في العمل الفني.”
يقول الكاتب إن عليك أن تنزع ملابسك (!!) التي هي العقيدة والأخلاق، والأيديولوجيَّة، وطريقة التفكير، وخبراتك في الحياة، وكل شيء يميّز شخصيتك عن غيرك (محاولة استعاريَّة محلّ نظر بلاغيًّا لكن هذا ليس مهمًّا الآن) الحاصل: يقول لك الكاتب إن عليك أن تتجرَّد من كلِّ نظرة مسبَقة لكي تحكم على العمل الفني، يعني من أيّ فكرة وقناعة عندك، عليك أن تكون فارِغًا تمامًا، ثم يقول لك: عليك أن تقيِّم بـ”منظور فنيّ”!!
وسؤالي: “المنظور الفنيّ” هذا، أهو من ضمن الخبرات والأفكار والاعتقادات -بمفهومها الأوسع- أم لا؟ المنظور الفني فكرة تحكم من خلالها على العمل الفنّي، فإذًا هذا “المنظور الفني” (والله أعلم ماذا يعني هذا المصطلح على كلّ حال!) هو قطعة ثياب لم تنزعها من على جسمك!!
يقول الكاتب إن عليك أن تنحّيَ المنظور الشخصي، واللهم أشهدك أني لست على قَدر خارقٍ من الذكاء! لكنني مهما حاولت، لا يمكنني أن أفهم كيف باتت كلّ الأفكار والمعتقدات والأخلاق والخبرات “منظورًا شخصيًّا”!! ألا يمكن أن يكون بعضُها “منظورًا فنيًّا” على الأقل أو حتى حقائق ثابتة في حالة الدين والأخلاق؟! أم إنّ في البين أمورًا تخفى على أمثالي من متواضعي الذكاء؟!
مِن “نزع الملابس” (!!) هذا، جاءت فكرة اسم التدوينة، إن كنت تتساءل، أو لا تتساءل، عزيزي القارئ!
ثُمّ إن المفهوم من كلام الكاتب، أنه لا يقيّد هذا النَّزع بأي قطعة (فكرة) ومِن ثَم يشمل هذا حتى المبادئ العقلية الضرورية (ككون الواحد نِصف الاثنين، والتناقض ممتنع، والكل أكبر من جزئه، والعليَّة، إلخ) وإن لم يصرّح هو بذلك، وهذا عجيب من مقال “أكاديميّ” من المفترض أن تكون كلّ ألفاظه ومعانيه دقيقةً وواضحة!
فإنْ كان لا يقيّده حتى بمثلِ هذا، بطلَ العقلُ والطبيعة والفن والدنيا والكون والملابس المنزوعة، وصرنا إلى ما لا يُحمد عقباه! وإن كان يقيّده، فقد بات عدد الملابس الباقية -فيما يظهر- أكثر من المنزوعة! (وأظنّ هذا على كل حالٍ شيئًا جيِّدًا، رغم قصوري الفكري!)
لا تعنيني بقيَّة المقال بصراحة، فأنا إنما يعنيني هذا الجانب الذي تحدَّثتُ عنه، لكنَّ المقالَ كلَّه مشحون بمثلِ هذا. فكرة “التجرّد من المُسبَقات” (مسبقاتك أنت، أيها المسكين الساذج، لا مسبقات من سيعلمك كيف تنقد أي عملٍ نقدًا أكاديميًّا.. وبسهولة!!) هذه تشبه فكرة “تقييد الفن” التي عرضتُ لها في المقال السالف، كلام لا معنى له، فلا هو واضح تمامًا في حدوده وقيوده، ولا هو أصلًا ذو طائل في جوهره ومضمونه.
خذ عني -عزيزي القارئ- إن شئتَ مقالةً تنفعك إن شاء الله في حياتك: لا أحد يتجرَّد من المُسبَقات، ولا ينبغي أن يتجرَّد أحد من “المسبقات” أصلًا بهذا الإطلاق، فمنها ما هو ضروري لبناء الحكم، ثمّ بعضُها يجدر بك أن لا تجعله حَكَمًا على العمل الفنيّ، لكن لا يجدر بك أيضًا أن تنزعه! يمكنك أن تلبس ثيابًا جيدة قبل أن تمارس النقد، لا بأس بذلك، ليس من ضيرٍ في ذلك عَلِمَ اللهُ!
دعنا من كلِّ هذا -عزيزي القارئ- فإننا فرغنا من نقد الكلام وتحليله لنأتي إلى تقديم إجابتنا، بعيدًا عن كلّ هذا النزع، هل مجموع الدين والأخلاق والخبرات وما إلى ذلك حكَم على تقييم العمل الفنّي والأدبيّ مِن جهة كونه عملًا فنيًّا وأدبيًّا؟ الجواب: لا، ولكي تفهم هذا الجواب وما يعنيه، عليّ أن أعود بك إلى العصور الشعرية الذهبيّة في التاريخ الإسلامي، وما قاله النقّاد حينها، لنقيس ما نحن فيه عليه، فلا تستعجل في الحكم واصبر معي إلى النهاية (ولا أظنك تختلف معي في أن هذا على كلِّ حال أهونُ من نزع ملابسك!)
كما تعلم -عزيزي القارئ- أن التاريخ الإسلامي والعربي زاخر بعظماء الأدب والشعر، ومن هؤلاء العظماء: الجاهليُّون، وكان المسلمون يؤدِّبون أبناءهم بشعر الجاهليين ويعظمونهم (في المجال الشعري طبعًا) رغم كونهم ينتمون للعصر الجاهلي، أي ما قبل الإسلام، فأشعارهم مليئة بما يناقض العقيدة الإسلاميَّة، وفي بعضها شيءٌ كثيرٌ من الفسق والمجون والمضامين غير الأخلاقيَّة، كما في شعر امرئ القيس الذي فضَّلَهُ جمهور النقاد المسلمين بالمناسبة! وكذا في شعر الأعشى وغيرهما.
بل إن كثيرًا من النقاد جعلوا الجاهليين مثالًا يُقاس بهم شِعرُ من جاء بعدهم، وعارضهم في ذلك نقاد آخرون، لكن ظلّوا جميعًا يعظمون شعر الجاهلية. ثم فيما يخصّ عصر الشعراء الإسلاميين والمولَّدين، تعامل النقَّاد مع الشعر بالطريقة ذاتها، فقدَّموا جريرًا والفرزدق والأخطل على غيرهم، والقارئ لنقائضهم (ضَرْبٌ من الشعر) يعرف أنها مليئة بالسبّ والقذف واتهام الأعراض، وجميعنا يعلم منزلة هذه الأفعال من الشناعة قولًا واحدًا!
ثمّ قدَّموا بشّار بن برد، وأبا نواس، رغم ما اشتهر عن الأول من الزندقة والمجون، وعن الثاني من فنّ خاص باسم “الخمريات” مثلًا (جذور هذا الفن قديمة وقبله بزمن لكن ليس هذا موضوعنا الآن) وكثير من المضامين التي يأباها الخلق والدين، عظَّم النقاد كلَّ هؤلاء في مجالهم (الشعر والأدب)، لمَ؟
ببساطة، يا عزيزي القارئ، لأن النقّاد كانوا يعرفون أن الانحلال الأخلاقي والتفسّخ كما لا يعني أنك شاعرٌ مميّز لا يعني أنك شاعر ضعيف، كما أن التمسّك بالدّين -وهو المطلوب والغاية الأسمى بلا ريب- لا يعني أيًّا منهما، فهما موضوعان مختلفان ومستقلّان. قد يكون قول الشعر الفلانيّ (كما في أشعار الفحش والمجون) غير جائز، لكنه قِيل، وَجِهَة الحكم عليه -من جهة كونه شعرًا أي نشاطًا لغويًّا أدبيًّا- جهة لغويَّة أدبيَّة لا أخلاقيَّة.
نعم يمكن الحكم على قَوْلِ الشخص له، وعلى شخص قائله أيضًا، من جهة أخلاقية ودينية (فإن هذه ليست قضية نسبية) لكنَّ نَفْسَ الشعر، بما هو شعر، لا يمكن الحكم عليه من هذه الجهة، لا يمكن أن نقول: شعر ضعيف لأنه فاحش، مثلًا. هكذا كان نظرهم، ولذا لم يتحرَّجوا من رواية هذه الأشعار وحفظها، وها هي دواوينهم بين يديك اليوم مع شروحات العلماء!
سأكتفي -لئلا أطيل- بنصّين من نصوص النقد في التاريخ الإسلامي التي تبيّن لك كيف كانوا ينظرون إلى هذا، قبل أن أقول لك علامَ كانوا يعتمدون في حكمهم على ذات الشعر؛ أحَسَنٌ هو أم ركيك، يقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجانيّ في كتاب “الوساطة بين المتنبي وخصومه”:
“فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوءُ الاعتقاد سببًا لتأخُّرِ الشاعر [يعني ضعفه ونزوله في المرتبة عن غيره في الشعر] لوجب أنْ يُمحَى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدَّتْ الطبقات، وَلَكان أولاهم بذلك [يعني بأن تُمحى أسماؤهم…الخ] أهلُ الجاهلية…” ثم يقول: “ولكنَّ الأمرين [الاعتقاد والشعر] متباينان، والدين بمعزل عن الشعر.”
ويقول شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجانيّ في “دلائل الإعجاز” في سياق الرد على من زهَّد في رواية الشعر لما فيه من المضامين:
“وراوي الشَّعر حاكٍ، وليس على الحاكي عَيبٌ، ولا عليه تَبعةٌ، إِذا هوَ لم يَقصدْ بحكايتهِ أن يَنْصر باطلاً، أو يَسُوء مسْلِماً، وقد حكى اللهُ تعالى كلامَ الكفار، فانظرْ إِلى الغرضِ الذي له رُويَ الشعرُ، ومِن أَجْلهِ أُريد، وله دُوِّن= تَعْلَمْ أنك قد زُغْت عن المنهج، وأنك مُسيءٌ في هذه العداوة، وهو العصبيّةِ منكَ على الشَّعر. وقد استشهدَ العلماءُ لغريبِ القرآنِ وإِعرابهِ بالأبياتِ فيها الفحشُ، وفيها ذكْرُ الفعلِ القبيحِ، ثم لم يَعِبْهم ذلك، إذا كانوا لم يَقصدوا إِلى ذلك الفُحشِ ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله.”
وكان الشيخ عبد القاهر يتتبَّع الشعر ويتذوَّقه ويحلّله ليطبّق عليه النظرية التي أصَّلها ووضعها (وجذورها ضاربة في عمق النقد الأدبي عند المسلمين قبله) وهي نظرية النظم التي يُثبت بها إعجاز القرآن بلاغيًّا، وهذا جواب سؤالك: علامَ كانوا يعتمدون في الحكم على الشعر والأدب؟
أقول لك: على بلاغته، لكن ليست تلك البلاغة التي نتعلمُها في المدارس والجامعات وقد نُزعت من سياقها لتُجعل محض ألفاظ ومصطلحات، بل على البلاغة الشاملة للتذوّق والنَّظر بناءً على السياقِ النحويّ الأوسع وتحليل الأساليب والتراكيب، وهذه هي نظريَّة النَّظم.
وكانت هذه نظرة القدماء إلى الشعر: سياق خاص تحكمه معايير خاصة، وما دام نشاطًا لغويًّا فإن الحكم عليه يكون مُستقى من اللغة (وهذا المستقى هو نظرية النظم)، وهذه المعايير -مُمَثَّلةً في نظرية النَّظم- مُسبَقة في الجُملة، سياقيَّة في التفصيل، إذ تختلف تشكلاتها باختلاف الشعر وأغراض قوله. وليس من شأني -عزيزي القارئ- أن أشرح لك نظريَّة النظم الآن، فليس هذا غرضي، بل غرضي واضح: أن أعطيك مثالًا على عدم اعتماد الدين والأخلاق معيارًا في الحكم على الأدب، دون أن يعني ذلك ترك التمسك بهما! فهما أمران متباينان.
وقد اعتَمدَ هذا المنهجَ -سواء في نشر الدواوين وطباعتها أو في نقد الأدب- علماءُ عديدون في زماننا، ولم يعتمدوا النظرة الأخلاقية لذات الشعر مع تمسكهم بالمعتقدات والأخلاق، ومنهم محمود شاكر (انظر منهجه في: نمط صعب ونمط مخيف، وغيره) وابن عاشور (انظر مقدمته لتحقيق ديوان بشار بن برد) ومحمد محيي الدين عبد الحميد (انظر مقدمته لتحقيق يتيمة الدهر للثعالبي) وغيرهم، ولولا خوف الإطالة لسردت لك مقالاتهم.
بل أحسب أن النقد الأخلاقي (لذات الشعر، ركز على هذا القيد، أي بأن تقول مثلًا: هذا شعر ضعيف لأن مضامينه غير أخلاقيَّة) هذا دخيل علينا من الغرب، إذ تَعامَل بعضهم مع عامة الشعر بوصفه مربّيًا مباشرًا للأخلاق السليمة، وهذه النظرة لم يعتمدها العرب في نقدهم للشعر، وإن كانوا ربّما اختاروا أشعارًا محددة لتربِّيَ خصالًا ما.
وإذ قد فهمت هذا، وأرجو أن تكون فهمته جيِّدًا، تعال بنا نعود إلى موضوعنا وهو العمل الفنّي: لو قدَّم لك العمل رسالةً تصادم مبادئك، فإن الحلّ ليس أن تنزع ملابسك!! بل الحل أن تقول: لا ريب أن هذه الرسالة باطلة لكذا وكذا من الأسباب (وليس عليك أن تفعل ذلك دائمًا فإنه في كثيرٍ من الأحيان يكون واضحًا أصلًا!) لكن هذا لا يستلزم بالضرورة أن العمل سيئ، فإن هذا غيرُ ذاك، يمكن أن يكون العمل قويًّا ومميَّزًا ووظَّف أساليب الحبكة والتماسك والجوانب البصريّة بصورة مميزة وقوية لخدمة فكرته، وتكون فكرته مع ذلك فكرة سخيفة لا نتردد في رفضِها وإنكارها، أو يكون جزءٌ من أفكاره كذلك، والجزء الآخر سليم، وهذا التمييز يوصلك -عزيزي القارئ- مع الوقت إلى تكوين ملكة نقدية قادرة على الفصل بين الأمور فصلًا ذهنيًّا.
عزيزي القارئ، ليس عليك أن تنزع ملابسك قبل أن تنتقد عملًا، ثِق أن هذه ليست فكرة جيدة، وليس عليك أن تتجرد من الدين والأخلاق والخبرات (والقائمة الطويلة!) كل ما عليك أن تفعله أن تضع الأمور في نصابها، كما قالوا إن بشار بن برد شخصيته كذا، وشعره كذا، يمكنك أن تقول: هذا العمل رسالته كذا، ومواصفاته الفنية كذا.
لا يستلزم ذلك أن توافق على صناعة مثل هذه الأعمال التي تروّج للأفكار المرفوضة، بل لك أن ترفضها رفضًا باتًّا وقاطعًا -خصوصًا إن كان العمل برمّته يروِّج بشكل فاقع إلى مبدأ لا يمكن الجدال حوله- بل وليس عليك أن تشاهدها، بل لعلّك تجدُ مِن الأفضل في بعض الحالات أن لا تشاهدها= لكن ليس مجرد طرحها لرسالة غير مَرْضِيّة -ما لم يستلزم وراءه سوءًا في كتابتها وصناعتها- سلبيَّة فنيّة (وإن كانت سلبية فكريّة في هذا الفرض!)، الأمران منفصلان.
ويمكنك -بعد ذلك- أن تستثمر كلّ هذه السياقات الثقافية المسبقة عندك لتحلل العمل (فقد تستعمل الخبرة في تحليل دوافع الشخصية مثلًا) وينتهي تفكيرك، بعد استيفاء كافة الأدوات الممكنة، إلى الحكم على العمل حكمًا نقديًّا، وأنت على معرفةٍ: أين تقف، وإلامَ تنظر، وأين تتوقف مَدَيَات هذا الضرب من التحليل وذاك! (والثمرة الأهم من ذلك طبعًا هي الاحتفاظ بملابسك)
سأضيف مثالًا جيِّدًا، في أيام دراستي الجامعيَّة في إحدى المواد كان عليَّ أن أقرأ ثلاث روايات عربيَّة، وقد اخترتُ -ضمن هذه الثلاث- رواية “نزيف الحجر” للكاتب الليبي الشهير إبراهيم الكوني، ثمة مشهد في هذه الرواية حيث ينازع حيوانٌ الموت أمام الأب، ويحكي الأب هذه القصة للابن، فيسأله الابن: “هل حللته؟” (يعني: هل ذبحته وفق الشريعة؟)
وهذه لفتة ممتازة، وتصبّ في قوة الكتابة، إذ إن جريان العمل في بيئة إسلامية ووسط شخصيات مُسلمة، جعل من سؤال الابن اهتمامًا جيِّدًا بالتفاصيل في سياق الرواية، وهنا تكون قد استعملت الدين في تحليل الدافع، قد يُقال: إنّه أيضًا منظور فنّي، وهذا صحيح، لكنه أيضًا مبنيّ على معرفتك الدينيّة. لو كان العمل في بيئة أوروبيّة غربية وسط شخصيات غير مسلمة، لن يكون من المنطقيّ أن يُسأل هذا السؤال.
وبالعودة إلى المثالِ الذي طرحه الكاتب عن التعرّي (لا، لم أنسَ ولم أتجاهله -عزيزي القارئ- أرجو أن لا تسيء تقديري مرة أخرى) أقول: يمكن أن نرفض التعرّيَ رفضًا مبدئيًّا ومُطلَقًا أيًّا كان غرضُه، حتى إن كان ذا غاية للعمل الفنيّ (فإنّ الأفكار لا يقتصر إيصالها على هذا الأسلوب مهما كانت!) لكن ليس من الضروريّ أن يكون العمل الفني المحتوي على تعرٍّ سيئًا، أو أنَّ التعرِّي أضعف العمل فنيًّا، فهذه قضية وتلك قضية.
الرفض المبدئيّ شيء، والتقييم في سياق العمل شيءٌ آخر، وحين تقول إن هذا الشيء خدم جانبًا محدَّدًا من القصة والدراما، هذا لا يعني أبدًا أنك تقبل وجوده وتبرره، غاية ما هنالك أنك تحكم على العمل في سياقه الخاص وفق ما تراه، دون أن يلزم من هذا أن تتخلى عن مبادئك (أو تنزع ملابسك!!). كما أنك ترفض المجون وشرب الخمر والتغني به، لكنك لن تقول إن شعر أبي نواس مثلًا ضعيف وسيئ لأنه يحتوي على هذا، وإن أبا نواس شاعرٌ ضعيف، لأنه استعمل هذه الأغراض والموضوعات في شعره!
والحاصل: عزيزي القارئ، لا تنزع ملابسك! أرجوك، يمكنك كتابة مقال نقديّ دون نزع ملابسك، خصوصًا في هذا الجو! والسلام.
بالمناسبة تعبير اراجيك تعبير بليغ؛ عند نزع الملابس يتوحد شكل الانسان، وعندما ينحي الانسان شخصيته جانبا تتوحد سجية الانسان، فـ بالتالي تتوحد نظرته. عموما تنحية الذوق عند التقييم من النصائح الغير مجدية غالبا؛فإذا كان عندي عمل ماني مهتم له لانه على خلاف ذوقي فأعتقد من البديهي اني ما راح اهتم في تقييمه، فالتقييم يحتاج الى جهد في التدقيق و التامل و المراجعة…الخ واذا الشي اللي على خلاف ذوقي جزئية معينة في العمل فأنا احتاج اني ادقق النظر فيها عشان ما اغلب ذوقي في الحكم على الجزئية و تدقيق النظر في امور على خلاف ذوقي تجعل من عملية التقييم غير ممتعة.
كاتب اراجيك وقع في خطأ؛ فلما يقول اذا انت لا تحب التفسخ فلا تحاول ان تجعل من ذلك عيبا لانك تكرهه بل تجرد من ملابسك اثناء التقييم
و اقول: بل انت تجرد عن ملابسك فإن الانسان السوي ذو الفطرة السليمة مفطور على كره الخلاعة و المجون، كل البشر مفطورون على ذلك لكن تغيرهم الملابس التي يرتادونها فيما بعد، فاذا انت كنت تستحسن التفسخ فلا تحاول ان تجعل من ذلك مبررا لعدم الاخذ على العمل الصور القبيحة التي به، فيا اخي الفاضل تجرد عن ملابسك! فحتى لو كان هنالك منفعة قصصية يظل القبح موجود .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا مرة أخرى، D:
نكمل بهذه الرسالة رحلة الرد على سلسلة النقد. (براءة إختراع الاسم تعود لي)
لعلك بالغت قليلًا بالغضب على كاتب المقال، والذي لا أعلم من المشرف الذي سمح للكاتب بنشر مقال بهذه السطحية والمليء بوجهات النظر الشخصية، وكثيرًا منها مغلوطة.
لكن لدي سؤال بما أنك طرحت هذا الأمر، مالذي يجعل أمر ما بالنقد منظورًا شخصيًا؟ وهل هنالك أركان للنظرة الفنية؟
أم أنك تستطيع نقد مادة ما بمنظور شخصي لكنها تحمل نظرة فنية بالوقت ذاته؟
سؤال جانبي، قرأت قصيدة أزهار الشر لبودلير؟
وجدت كتاب يضم الأعمال الشعرية الكاملة للكاتب بترجمة تبدو لي جيدة من نشر دار الشروق وترجمة رفعت سلام، سأشرع بقراءتها بعد قليل.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لم أكن غاضبًا بصراحة XD
لكن وجدته أسلوبًا مناسبًا للرد
جوابًا لسؤالك: النظرة الصحيحة الموضوعية هي التي تحكّم أشياء منتزعة من مجموع الفن في العمل المفرد، وذلك بإجرائها عليه وتشكّلها حسب السياق الخاص لكل عمل. سلسلة الحبكة مثال على هذا فيمكنك أن تفهم قولي بقراءتها.
ولا أحبذ استعمال كلمة “منظور شخصي” لأنها مبهمة، لكن حاصل الأمر أن هناك اختلافًا بين قولك “يعجبني/لا يعجبني” وبين الحكم على العمل بالقوة أو الضعف، قد يجتمعان؛ بأن يكون إعجابك بالعمل موافقًا للحكم الفني الصحيح، لكن لا يتحتم أن يجتمعا. إعجابك وعدمه أمر أنت لست مطالبًا فيه بتبرير موضوعي، عكس الحكم الفني.
لا لم أقرأه، لكن أظنني قرأت مقاطع من الديوان.
كلام جميل جدا ، وبارك الله فيك .