أهلًا بكم.. تعوّدتُ أن أكتبَ – في هذه المدونة – مقالاتٍ ومراجعاتٍ تتّسم جميعُها بصفة الخصوصِيَّة، أي أنها تتعرّض لمناقشة المستوى الخاصّ بعملٍ محدَّد، أيًّا كانت نوعيّة العمل وصِنفه.. غير أنني فكّرت اليومَ أن أغيِّر هذا بناءً على مقولةٍ لأحد الأصدقاء طرقت في ذهني تفكيرًا قدِيمًا، بَل تفكيرًا راسِخًا عندي، فحفّزتني مقولته هذه، إلى تَقرير هذا الرَّأي – المتّصف بالعموميّة – المُتعلِّق بمقولةِ “التقييم العاطِفيّ” هذه، التي صارت شمَّاعة تُرمى بها الآراء بدلًا من النِّقاش السَّليم والنّقد المُرتَّب المُتماسك.
وأنا هُنا لا أعني هذا الصَّديق المُعَيَّن، بل أتحدّث عن تَجرِبة دامت قرابةَ 7 سنواتٍ من رؤية هذه المقولة يتراماها النَّاس، وكأنها صارت دِثارًا يتغطّى بهِ من لم يعِ مبانيَ الكلام ومعانِيَه.. ولو كانت هذه المقولة تأتي مشفوعةً بالتحليل العقلانيّ والمناقشةِ الموضوعيّة، لما كنّا أفرَدْنا لها شيئًا، لكنْ عَزَّ – لَعَمْرُكَ – فاعل هذا!
وبعدُ: فقد قال لي هذا الصَّديق في سِياقِ اعتراضه على تقييمي لـSteins;Gate 0 – والّذي أراه عملًا عظيمًا بلا ريبٍ – : “التّقييم المبنيّ على العاطِفة اللحظيَّة مصيرُه التغيير”. لستُ الآنَ في واردِ مناقشةِ انطباق هذه المَقُولةِ عليّ، أو على تقييمي الشخصيّ للعمل آنفِ الذِّكر، كلا.. ليس هذا مُبتغاي الآن، إنما ذكرنا هذه المقولة لنتّخِذها محلًّا للبدء نمضي منه إلى تقرير موقِفِنا.
فنقول أولًا: إنه خَرَجت بقولِه “اللحظيَّة” العاطفة غير اللحظيَّة، وقد عنى بقوله “اللحظيَّة” ذلك الشُّعور الذي ينتابك بعد إنهاء العمَل، هذا بيانُ قولِه، وكأنه أرادَ بذلك كون تقييمي مبنيًّا على مُجَرَّدِ الشّعور الذي انتابني بعد إنهائه، ولستُ – كما قلتُ – في واردِ نقاش ذلك الآن.
ثمّ إن أردنا أن ننظر للأمر نظرةً عامَّة نبتعد فيها عن الحالات الفَرديَّة وعن القائل والمقول فيه، ونتجنّب المعنى الذي أراده القائل منها، فنأخذ المقولة بذاتها دون نظرٍ إلى ما عداها، فإنها في المُجمَل جيِّدة ولها معنًى صائب، غيرَ أنّها مُبهَمة، وانطلاقًا من كوننا أوضحنا أننا سنتخذها محلًّا للبدء ننطلقُ منه لبيان موقفنا، نقول: إنه إنما يُتَصوَّرُ لمعنى دخُولِ العاطِفة في التَّقييم معنيان:
الأوَّل: أن يكون تقييمُكَ الشّخصيّ للعمل الفُلانيّ، مبنيًّا على عاطفتك تِجاه العمل، نظَرًا لتاريخكَ الشخصيِّ معه، أو الظّروف التي شاهدتها فيه، أو سِوى ذلك، مما يولِّد علاقة خاصَّة بينك وبين هذا العمل، ولنَضْرِب مثالًا لذلك: لنفترِض أنك في أوقاتٍ حَزينةٍ – أبعد الله عنا وعنكم اللحظات الحزينة – شاهدتَ عملًا محدَّدًا، وقد ساعدك هذا العملُ على مواساةِ نفسك، وكان بمثابةِ إلهاء لك عن واقعك المرير، فحينها إن كان موقفك من العمل أنه يستحقّ 8، فأعطيته 10، فإن تقييمك هذا غير موضوعيّ، لأنك أدخلتَ فيه ما ليس له أيُّ علاقةٍ بالعمل.
الثّاني: أن يكون تقييمُكَ الشخصيّ للعمل الفُلانيّ، مبنيًّا على عاطفتِك تجاه العمل، المتولِّدة من داخل العمل نفسه، بيانُ ذلك: أن العملَ – بما يحتويه من دراما مُتقنة، وبناء متماسك للشخصيَّات هيَّأك للتفاعل مع اللحظات العاطفيّة المتعلّقة بها، وأحداثٍ مؤثّرةٍ عليكَ خلقتها الحبكةُ والجوّ والقصّة – قد أثّر في تقييمك، وهذا النّوعُ من العاطِفةِ مَن قال إنه لا يدخل في التّقييم فهو أبله قولًا واحدًا!
ذلكَ أن كلّ ما قدَّمناه من مميّزات عاطِفيَّة إنما هي متعلقة بجودة العمل نفسه، فالعاطفة تعودُ هنا إلى إتقان العوامل المذكورة وغيرِها، وهي فنٌّ مَجِيد، وهي حينها أحرَى أن تؤثِّر في التَّقييم تأثيرًا بالِغًا!
نعمْ، إن أثّرت هذه العاطِفةُ على التَّقييم بدَرجةٍ جعلته غير متوازنٍ مع بقيّة العوامل المؤثرة، كانَ تقييمُك من جِهةٍ غيرَ موضوعيّ، وإنْ كان تأثُّرُكَ بالعاطفةِ تأثّرًا ساذَجًا جعلك تنخدعُ بمظاهرها غيرَ ملتفتٍ إلى المشاكل البنائيّة التي تكمن خلفَها، فإن خطأك يكمن في هذه السّذاجة بعينها، وبعبارةٍ أخرى: تدنّي الذّوق والحصافة، الذي جعلك تتأثّرُ بما ليس أهلًا لأن يُتأثَّرَ به، وقد ضرَبْنا صفحًا عن ذِكر أمثلةٍ لأعمال حدثَ عند متابعيها مثلُ هذا لئلّا يتحوّل الأمر لنقاش المصاديق وترك الموضوع.
وإذا كان الأمرُ كما قدَّمنا، مِن كوْنِ تدنّي الذّوق السّببَ في حصولِ مثلِ هذا، فإن النِّقاش ينبغي أن ينصَرِفَ إلى الأساس الذي تولّدت منه هذه العاطفة لنَعرِف: أكانت عاطفةً مُبرَّرةً – إن جازَ التّعبير – أم لا؟ أي أن ننظرَ إلى الأساس، البناء، الجوانب الفنِّية والبنائيَّة للقِصَّة، أما أن نقولَ: فلان عاطفيّ بخصوص هذا العمل، فلا شيء!
ذلك لأنَّ قولَك هذا مُبهَم: هل تعني بهِ أوَّلًا: القِسم الأوَّل من العاطفة، أو الثّاني؟ فإن كنتَ تعني القِسم الأوَّل فعليك أن تشيرَ إلى ذلك، والغالبُ أن إثباتَ ذلك دونه خرطُ القتاد إلا أن يعترفَ الشّخص به! أما إن كنتَ تعني أنه أساء تطبيق القِسم الثاني فإنَّك إنما تنتقد سوء التطبيق، وبعبارةٍ أوضح: ترى أن هذا الشَّخص أساء النّظر، أنه ساذج، تأثّر بما لا يستحقّ، فظنّ العاطفةَ غيرَ المبرّرةِ مبرَّرةً.
أما أن تنتقد تأثّر الشَّخصِ بعملٍ فيه عاطفةٌ رائعةٌ على أسس سليمة كما ذكرنَا: فهذا لا يفعله أحد، إلا شخصٌ لديه مشكلة دِماغِيَّة من نوعٍ ما، فإن الكلَّ متفق على أن عملًا كهذا جديرٌ بأن تؤثر عاطفتك في تقييمه، كما أنّ لحظاتٍ محدَّدة تتناول موتَ شخصيَّات أو معاناتها ستؤثر تأثيرًا كبيرًا في نظرتك وتقييمك. فلا بدّ أن المقصود هو ما ذكرناه أوَّلًا: مِن أنّ مقصودَ من يقولُ هذا أن العاطفة ساذجة غير مبرّرة لأنها لم تأتِ وفق بناءٍ سليم، وأنّ المرء المتّهم بالعاطِفيّة هنا قد أساء تطبيق هذا المفهوم عليها فتأثّر بلا شيء.
فإن كان الأمر كذلك رجع الأمر كلُّه إلى مناقشة البناء، والجوانب التي ذكرناها وغيرها مما ينبغي أن يتوفّر في العمل، وما عداه رميٌ للأقوال بلا داعٍ، ومصادرة على المطلوب لا فائدة منها، وإذًا فلا معنى هنا لأن تقولَ “عاطفتك غلبتك على تقييم العمل” لأنها جملةٌ – بذاتها – لا فائدة منها، ومبهمة، ولا معنى لها، ولا محصِّلَ من ورائها، وهذه جُزئيَّةٌ مهمَّة تستدعي تركيزك – عزيزي القارئ – لفهمِها جيِّدًا فأعِد الكَرَّة إن وجدتَ أنك لم تستوعِبها بعد، وألتمسُ العذرَ منك على التقصير في البيان إن وُجِدَ.
وإذَا تقرَّر هذا رجَعَ بِنا القولُ إلى مقولة صاحِبِنا حول “العاطفة اللحظِيَّة” معَ ما بيّناه من أن القَصْدَ من قولِ صاحِبنا فيها تلك العاطفة التي تنتابك بعد إنهاء العمل، والأرجح أنها تتناوَلُ الشّعور الإيجابيّ العاطفيّ الغامر، دونَ الشعور السَّلبيّ، وإن كانت العبارةُ عامَّةً.
قلنا إن العبارةَ جيدة في الجملة ولها معنًى صائب ونبيّنه الآن فنقول: إنك إن بنيتَ تقييمك بالكامل على اللحظة النِّهائيَّة والشّعور الذي صاحبَها وتولَّد عنها وبقيَ بعدها، فإن تقييمك غيرُ موضوعيّ بلا شك، ذلك لأنك أهملت سلسلةً طويلةً – بالقياس إلى هذه اللحظة – من اللحظات والحلقات، وبنيتَ تقييمك بالكامل على هذه النُّقطة، هذا في ذاته معنًى صائب.
أما إن كانت هذه اللحظة النِّهائية، لا تعدو كونها لحظةً توَّجت سلسلةً تامّة، وكان لها – أعني اللحظة – دورُها ضمنَ تلك السِّلسلة، إن كان الأمرُ كذلك، فإن ذلك – ولا ريبَ – قمّة الموضوعِيَّة، والنّظرة المدقِّقة الناقِدة، فإنك حين ذلك تكونُ قد جمعتَ أطرَافَ العناصر التي ينبغي عليك اعتمادها للوصول إلى التَّقييم الموضوعيّ. وإذًا فالمعنى سالفُ الذِّكر هو المعنى الصائب لمقولته، والتّقييمُ المبنيّ على العاطفة اللحظية بذاك المعنى، هو وجه آخر للتقييم غير الموضوعيِّ بعدَ القسم الأوَّل من العاطفة المذكور أعلاه.
وأمرٌ آخر ينبغي الإشارةُ إليه أن ما يَعْرِضُ على عبارة “هذا التَّقييم عاطفيّ” يعرضُ على “تقييمك مبنيّ على عاطفة لَحظِيَّة” ذلك أنّكَ أولًا عليك أن توضح ما الذي تعنيه بالعاطفة اللحظيَّة، فإن كنتَ تعني المعنى الثاني الذي ذكرناه لها فهي من كمالِ الذّوق والنّقد السليم المتماسك، وإن كنتَ تعني الأوّل: عليك أن تبيّنَ مسوِّغاتِك في نعتك لها بالعاطفة اللحظيَّة، فهل هي حقًا عاطِفة لَحظِيّة؟ وبعبارةٍ أخرى: عليكَ أن تثبت صِحّة تشخيصك لها.
وإن كان الأمرُ كذلك، فإثباتُ كونِها عاطِفةً لحظيَّةً بهذا المعنى غير مُمكِن إلا أن يعترِفَ الشَّخصُ بذلك، وهذا لا يُتصوَّرُ عادةً، ذلك أن المُدَّعى عليه إنما يزعمُ أن تقييمَه موضوعيٌّ وليس كما يرى المُدَّعي، وإذًا فإنَّ النّقاش يجب أنْ يعود مرَّةً أخرى إلى البِناءِ والأسس والجوانب الفنّية المتعلِّقة بالعمَل، وما عداه يكون ضَرْبًا من لغوِ الكلام لا فائدةَ منه.
ونقولُ إنَّ قول صدِيقنا: “مصيره التغيير” فيهِ نظر، فإن التغييرَ ليس حَتْمِيًّا حتى بالمَعنى الصائب الذي ذكرناهُ لكونِ التّقييمِ المبنيّ على العاطِفة اللحظِيَّة غيرَ موضوعيّ، فإن البعضَ قد لا يغيّرُ التَّقييم رغم ذلك، إلا أن المعنى هُنا أنّ دواعِيَه تتوفّرُ سواء حصل أم لا. هكذا نكون انتهينا من هذا المقال المُتواضِع الذي أرجو أن لا أكون أثقلتُ فيه، وإن كنتُ قد أثقلتُ، فإن ذلك لأن الأمر يستدعي هذا التفصيل، وألتمسُ – مرّة أخرى – العذرَ منكَ عزيزي القارئ على أيِّ قصورٍ في البَيان والإفهامِ إن وُجِدَ.
جميل، يعطيك العافية.🌹🌹
جزاكم الله خيرا
لم أر احمد يعتذر مرتين في مقالة أبدا، سجل يا تاريخ