أهلًا بكم جميعًا.. قبل أن أشرع في موضوعي هذا، أريد أن أقدّم بمقدمة بسيطة دون إطالة، توضّح لكم – أيها الإخوة والأخوات – الموضوع الذي تتناوله هذه التدوينة البسيطة. سمّيت التدوينة بـ”تحليل جوهر الانحراف” ومعنى ذلك أن معالجة المشاكل التي طُرحت في المجلدات التي أصدرناها ليست من اختصاصنا الآن، على أنني قد أكتب تدوينةً أخرى لاحقًا حول هذا الأمر، لكن ما نريده الآن هو كشف الحقيقة بخصوص “الانحراف” الذي طال ذكره وتكرر في المانجا.
علينا أن نفهم إذًا، ما هو هذا الانحراف؟ هل هو يكمن في طبيعة ناكامورا وكاسوغا؟ هل هما تعرّضا لظروفٍ غير اعتيادية جعلتهما هكذا؟ هل ما نراه في ناكامورا مثلًا يمثل طَبعًا لهذه الشخصية على الانحراف والشهوانية والسادية؟ وماذا عن كاسوغا، هل هو مثلها؟
أعتقد أن كل أو أغلب من قرأ المانجا في البداية نظر لكاسوغا وناكامورا على أنهما حثالة البشر، المنحرفَان اللذان اختارا هذا الطريق بنفسيهما، ولا نعلم لمَ هما كذلك، لكنهما بلا شكٍ لديهما نفسًا مليئة بالاختلال وانعدام الأخلاق، ولديهما تصرّفات تدل على كونهما يتبعان الشهوات فقط، وعلى كونهما غريبان، ليسا كبقية الناس! صحيح؟ هذا ما نلمسه في أول المجلدات، ولأننا نركز على الأحداث أكثر، لا نعود للتفكير بالأمر، لنتساءل: كيف لفتى وفتاةٍ في الإعدادية أن يحملان كل هذا؟ لأننا نكون مشغولين جدًا بما يحصل فننسى كل تلك التحليلات المصدّعة للرأس.
ما سأقدمه هنا يختلف كل الاختلاف عن ذلك، ويمثل وجهة نظر أخرى تحليلية سأقدمها لكم من واقع قراءتي المتفحصة لهذه المانجا. ودون أن أطيل عليكم: أعتقد شخصيًا أن كاسوغا وناكامورا ليسا أكثر من شخصيتين عاديتين، نعم لديهما صعوبة بالتواصل، لدى كاسوغا ميلٌ للوحدة، ولدى ناكامورا وقاحة مفرطة في التعامل مع الآخرين، لكنّ من منّا لم يصادف شخصًا كهذا بحياته؟
بل لعلّ بعضنا يحمل بعض ذلك أصلًا، فنحن عشاق الفنون مثلًا كثير منا يميل للوحدة، لكن اختلافنا مع كاسوغا يتحدد بالمسببات التي دعت لهذه الوحدة فقط. نمضي فنقول: يطرأ على هذا التفسير تساؤل كبير جدًا، إذا كان كاسوغا وناكامورا يحمل كل واحد منهما شخصية عادية، فكيف السبيل إلى تفسير كل تصرّفاتهما هذه؟
نبدأ أولًا قبل الإجابة بالتفريق بين الفعل والطبيعة، بين الخطأ والطبع، هناك فرق بين أن يخطئ الإنسان، بين أن يرتكب جريمةً كبيرة، وأن يقترف ذنبًا مهما كان حجمه، وبين أن يكون مبطوعًا على ذلك.. مثلًا: هناك فرق بين شخصٍ يقتل، وبين شخصٍ يعيش على القتل، فكأن الفعل يصدر منه بشكل دوريّ، وكأنه صار “مولّدًا للجريمة باستمرار” هكذا يمكننا أن نفسر الفعل الأوّل لكاسوغا، أنه جريمة غير أخلاقية اقترفها، حين سرق ملابس زميلته، لكنه ليس أكثر من ذلك!
ليس هذا الفعل يكشف عن نفسٍ مطبوعة على الانحراف، بدليل أنك تراه يندم كثيرًا ويتصبب عرقًا، لأن هذا الفعل ليس معتادًا بالنسبة له، وكان هذا الفعل الذي فجّر شرارة الأحداث. دخلت ناكامورا، وحاولت أن تصور لكاسوغا أنه يحتمي بطبقات متعددة كثيفة من التظاهر، ويخفي طبيعته “الانحرافية” لكن ما يبدو عكس ذلك تمامًا حتى بالنسبة لها هي.
ناكامورا هي الأخرى، يشمل أفعالَها ذاتُ التفسير الذي سنقدمه بعد قليل، فناكامورا تتميز في شخصيتها بوقاحة غير طبيعية مع المعلمين والطلاب والآخرين، نعم، وما لبثت أن اطّلعت على ما فعله كاسوغا، فرأت في ذلك فرصةً كبيرة لكي تطبّق ما تريد تطبيقه مما سنذكره، وأنتَ حين تنظر لتصرفات ناكامورا خارج نطاق أحداث “الانحراف” فستراها مجرد فتاة وقحة، ليست شخصية مطبوعة على المرض ولا على الانحراف ولا على السادية كما قد يتصور البعض.
إذًا، ما هو السر في ظهورهما بتلك الكيفية؟ الجواب بكلمة بسيطة: حبّ الظهور والتميز.. نعم، لا أكثر. يحبّ الإنسان أن يشعر نفسه بكونه متميزًا، يحبّ أن يقنع نفسه بذلك، “أنا مختلف عن الآخرين”، “أنا لست سطحيًا تافهًا مثلهم”، حتى وإن كان الثمن الذي سيدفعانه في سبيل ذلك الظهور بمظهر المنحرف، لا يهم! فطالما يقنعان نفسيهما ويقنعان من حولهما أنهما مميزان، الأمر غير مهم.
لم يبدأ الأمر بالنسبة لكاسوغا متأخرًا، أبدًا، بل على العكس، كاسوغا كان هكذا منذ البداية، وما إشعار نفسه وغيره بتفرده، وما قراءته لكتاب أزهار الشر لبوديلير باستمرار، إلا دليل دامغ على ذلك! لمَ يفعل كاسوغا ذلك؟ لم يقرأ باستمرار ما لا يفهمه؟ إنه يريد أن يشعر نفسه بكونه مختلفًا.
تفعل ناكامورا الأمر ذاته، أرادت أن تقنع نفسها بأنها مختلفة، فاختلقت لنفسها فكرة أنها شخصية مختلة منحرفة سادية شهوانية لا تتوانى عن ارتكاب الفظائع، والواقع عكس ذلك، فأرادت أن تخلق في كاسوغا تلك الصورة التي أرادتها لنفسها، أرادت ذلك بشدّة، لكنها لم تستطع، لأنها ببساطة، ولأنه ببساطة، ليسا كذلك.. إنهما فتى وفتاة في الإعدادية، ارتكب أحدهما خطأ فحفّز كل هذه المكبوتات والطموحات للتميز، لا أكثر!
هل أنا أقول هذا الأمر تعسفًا؟ ليس كذلك.. فلديّ من الأدلة ما يكفي لأصل لمرحلة الترجيح بل القطع بصحة هذا الرأي، وبغض النظر عن تعليقي الشخصيّ الذي رآه وسيراه الكل على الفصل الأول من المجلد السابع الذي تم إصداره للتو، أقول: بغض النظر عن ذلك، وما فيه من دلائل على هذا الرأي، هناك دلائل كثيرة من العمل تثبت ذلك تمامًا!
أولًا: أوشيمي سينسي ليس كاتبًا يؤمن بعبثية الوقائع التي يسردها، فهو لا يسرد كلّ ما ترونه أمامكم لكي يوضح لنا أن هذا الانحراف وهذا الشر وهذه الشهوات والنزعات كلها وجميعها مجرد عبث في عبث، ظروف تداعت مع بعضها، نفوس طُبعت على الانحطاط.. أوشيمي طرح كل ما طرحه ليعالجه واقعيًا في المجلدات التالية، ومن ثَمَّ، يمكن لأي لبيب أن يرى أن هذا التدرّج في الأحداث لا يكشف لنا انحرافًا حقيقيًا في نفس ناكامورا وكاسوغا أبدًا، بل يكشف أنهما ضلّا الطريق، وأنهما انساقا وراء أفكارٍ سيئة، في مرحلةٍ ما لا أكثر!
ثانيًا: هناك عدة صفحات من المانجا تثبت ذلك، وسنستعرض بعضها، انظروا معي لهذه الصفحة:
اجتهدوا لتتذكروا معي، هل كانت ناكامورا تبحث عن علاج لـ”انحرافها” المدعى؟ أو لتعزيزه؟ كانت تبحث عن تعزيزه بلا شك.. لم تكن تبحث عن علاجٍ له. إذًا حين تقول إنها أينما ذهبت لا يمكنها التخلص من “ذاتها” أين يضعنا هذا؟
يضعنا أنها مهما فعلت، وأينما ذهبت، لا يمكنها التخلص من كونها فتاة عادية لا أكثر ولا أقل، لا يمكنها التخلص من حقيقة أنها مهما حاولت أن تشعر نفسها بالتميز، فتميّزها عرَضيّ لا أكثر وليس جوهريّ، بمعنى آخر: أفعالها فقط هي ما يجعل الآخرين يشير لها بكونها منحرفة حقيرة، لكنها من الداخل تعرف أنها ليست أكثر من فتاةٍ عادية تطمح للشعور بالتميز بأي وسيلة.
نعم، ليس في ناكامورا أي شيء مما تدعي وجوده، ليست مختلة، ليست مجنونة، إنها فتاة طبيعية يتسبب توجهها النفسي بكل هذه الوحشية. فإن كانت الاعتيادية تعني عدم وجود شيء مميز بحقيقة الشخصية ولا علة نفسية ما، فناكامورا بلا شك فتاة عادية، لا تعتري نفسها أي علة.
ولا نعني بكونها عادية عدم وجود جوانب متميزة ونابغة فيها، كالقدرة على تحليل الشخصيات مثلًا، أو ذاتها الرغبة في الشعور بالتميز بأي طريقة ورغبتها – تبعًا لذلك – باكتشاف “الجوانب الآخر” الذي لا يعدو كونه ثورة على الوضع القائم ونمطيته، بل نعني بها كما أسلفنا عدم وجود خلل جوهريّ يكمن في عمق الشخصية وطبيعتها.
ويدلّ على هذا المعنى كلام سايكي.. وجدنا أن ناكامورا تحلل نفسية سايكي وتكشف عن طبيعتها، ويمكننا أن نعكس الأمر تمامًا، ففي الفصل 29 وجدنا سايكي تتحدث عن كلّ من ناكامورا وكاسوغا:
ومن الواضح أن الأخ كاسوغا لا يريد أن يستمع لهذه الكلمة أبدًا، لا يريد أن يرى الحقيقة، أنه لا يحمل شيئًا مميزًا، وأن ناكامورا لا تحمل شيئًا مميزًا حقًا، يريد كاسوغا أن يعيش في عالمه الخاص، حيث هو منحرف منقطع النظير، وناكامورا شخصية بمحل من التميز يوصلها للدرجة S في الانحراف والتميز.
لكن الواقع، الذي يُعمي بطلنا بصره عنه، هو أنه ليس كذلك، لا هو، ولا صاحبته. وبما أننا نتحدث عن عمل إنسانيّ، فكاسوغا نفسه سبق واعترف بهذا أصلًا، في الرحلة التي لم تكتمل “للجانب الآخر”، حين صادفته سايكي وهو مع ناكامورا، حينها اعترف كاسوغا أنه فارغ:
لم تتغير ذات كاسوغا منذ ذلك الحين حين اعترف تحت ضغط غلبة المشاعر بكل ذلك، حين اعترف أنه ليس مميزًا بأي صورة، لقد حاول بطلنا في الفصول التالية أن يثبت عكس ذلك وأن يثبت انحرافه وسفالته بكلّ الطرق لكنّه لم ينجح في تغيير أنه مجرد فتى عادي، هل هو فارغ حقًا؟
هو يعتقد أنه فارغ، لأنه صبّ تركيزه كله على الشعور بالتميّز، ولم يلتفت أن عليه عيش الحياة بطموح شخصيّ وحقيقيّ، بطبيعته الشخصية التي ليس عليه أن يغيرها ليثبت شيئًا، لم يرضَ كاسوغا بذلك فظنّ أن خلوّه من الانحراف جوهرًا يعني أنه فارغ، ولو لم يركّز انتباهه على مثل هذه السفاسف لتغير الأمر كثيرًا.
لم يدرك كاسوغا وناكامورا بذلك الوقت أن التميّز إنما يصنع بالجهد والعمل وإثبات الذات وتحقيقها، لأجل ذاتك بالدرجة الأولى، ظنوا أن التميز مجرد طبع، مجرد شعور.. فوقعوا في سلسلة من المآسي لا تنتهي واحدة حتى تفغر الأخرى فاهها.
وعلينا أن نرى في المجلدات القادمة التي هي قيد الإصدار عندنا، كيف سيعالج أوشيمي سينسي كل هذا، وأدعوكم أن تبنوا نظركم للمجلدات بدءًا من السابع على هذا الأساس، لكي نرى كيف ستتكيّف رؤية كاسوغا مع تقدّم الأحداث وتغير الظروف أولًا، ولنرى كيف سيتبلور الجانب الذاتيّ والشخصية الذاتية والتي كانت “فارغة” لا يحاول ملأها سوى بمحاولة إثباته لنفسه أنه شخصٌ مختلف ومتميز.
المرحلة التي ستتصدّرها توكيوا آيا ستكون المرحلة الأعظم كما قلت لكم.. فانتظرونا!
أريد أولاً أن اقول انني سعيد جداً بوصولي لمدونتك وقراءة هذا المحتوى المذهل
بحثت في المدونة عن وسيلة للتواصل المباشر معك كحساب تويتر مثلاً ولم اجد، إن كنت لا تزال تتابع تعليقات المدونة أتمنى ان يصبح بيننا تواصل من نوع ما، لو انتقلت للكتابة في مدونة أخرى سيسرني متابعتها أيضاً
شكراً لك لتقديم محتوى مميز كهذا
للتو اطلعت على ردك، عذرًا للتأخر.. لدي حساب على تويتر
@Ahmed49AFC
يا إلهي يا إلهي !!! .. قسم بجلال الله من أروع ما قرأت! مقال تحليلي قمة في الروعة.. أنا طالب جامعي أدرس حاليا علم نفس، قرأت هذه المانجا من توصية صديق، كانت مانجا غريبة وقفت عند أحداثها في ذهول، ولم أرهق نفسي في تحليل أحداثها وشخصياتها، بل اكتفيت بفكرة أن ما اقرأ ليس إلا مادة غير مألوفة ومثيرة للجدل لداعي عامل الجذب الترفيهي فقط، فلا توجد شخصيات هكذا في واقعنا أبداً، ولكنني بعد قراءة هذا المقال الذي وقعت عليه بالصدفة تغيرت وجهة نظري تماما واقتنعت جدا بكلامك ولا سيما أنه مقنع من الناحية النفسية جدا! أنا الآن أفكر جديا في قراءتها مرة أخرى + كلامك عن الشعور بالتميز جعلني أعيد النظر في عدة أوراق قديمة ومواقف وقضايا تحدث .. أشكرك من أعماق قلبي ����♂️��
أسعدتني والله يا أخي بتعليقك هكذا .. 💛
لا يختلف أثنان حول مدى وروعة المانجا التي تدخل كم هائل من التساؤلات لكل من قرأها.. أنا عن نفسي قرات جميع أعمال اوشيمي شوزو واستمتعت بيها جميع لابعد الحدود، لكن النهاية تركت فراغ بداخلي خصوص واني أحسست أن ناكمور يقع على عاتقها الكثير من اللوم بسبب ما إلا إليه الوضع من تدهور حال كاسوغا وأحسست أن ناكمور تركت لتعاني وحيدة في النهاية على عكس كاسوغا الذي وجد ذاته في صديقته توكيوا ايا..!
مقال جداً رائع للآسف إنهُ قصير شكراً أحمد…وأيضاً شكراً كوريجي على التوصية
[…] جوهر الانحراف ( هنا […]
واووو لا استطيع وصف مدى ذهولي انت شخص ذكي حقا شكرا لك اعتقد انه امر غريب لكنني كنت استمر بتفكير بهذه المانجا منذ وقت طويل كنت احس بمشاعر غريبه مثل خوف وانزعاج واكتئاب لا اعلم هذه المانجا اثرت في كثيرا المهم سعيد جدا لانني وجدت هذه الصفحه
مانجا مؤثرة بحق وتحليلك وملاحظاتك على الفصول أوضحت العديد من الأشياء التي يظن أنها ليست بحاجة إليه.
أشكرك على ترجمة هذه القصة الرائعة وأشكر كل من عمل عليها.
كنت قد انقطعت عن المانجا لفترة تزيد عن السنة واليوم بدأت هذه المانجا وأنهيته كاملة. لن تكون هي من تعيدني للمانجا ولا أريد العودة لتلك الحالة من المتابعة والاستهلاك لهذا النوع من الأوساط ولكن أؤكد لك أنها كانت تجربة لا تنسى بحق ولا ولن أندم عليها.
التجارب التي تخوضها شخصيات المانجا تبدو أقرب للواقع مما يعتقد البضع، حتى وإن كنا لا نرى أفعال كأفعالهم ولكننا نملك تلك الرغبة الدفينة في التميز التي لا تغادرنا إلا بالشعور بالرضا والقبول بما قدره الله لنا في الدنيا وأن الحياة ليست مليئة بالاثارة بل هي أحداث اعتيادية…. توقف الالهام ونعست صراحة. هكمل بكره تصبح على خير.
تحليلك للأحداث كان رائعا بحثت كثيرا قبل الوصول لمدونتك لكي أفهم العمل بشكل أوضح ، شكراً جزيلاً لك.
بشكل ما الشخصيات فالمانجا تمثل جانب من الإنسان في رغبته أن يكون الأنا الذات المميزة عن الأخرين ورغبته في أن يكون مختلفا منفردا وان يحس بالتميز عن الآخرين وهذا الاشياء تدفعه للقيام بأشياء عكس ماهو عليه فقط لكي لا يحس بأنه جزء من القطيع وشكرا على التحليل فهذا وضح المانجا بشكل مفصل والمانجا هاذي من أروع المانجات